بيان
قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر، في توجيه الخطاب إلى المؤمنين خاصة إشارة إلى كون الحكم خاصا بالمسلمين، و أما غيرهم من أهل الذمة و غيرهم فالآية ساكتة عن ذلك.
و نسبة هذه الآية إلى قوله تعالى: «إن النفس بالنفس»: المائدة - 48، نسبة التفسير، فلا وجه لما ربما يقال، إن هذه الآية ناسخة لتلك الآية فلا يقتل حر بعبد و لا رجل بمرأة.
و بالجملة القصاص مصدر قاص يقاص من قص أثره إذا تبعه و منه القصاص لمن يحدث بالآثار و الحكايات كأنه يتبع آثار الماضين فتسمية القصاص بالقصاص لما فيه من متابعة الجاني في جنايته فيوقع عليه مثل ما أوقعه على غيره.
قوله تعالى: فمن عفي له من أخيه شيء، المراد بالموصول القاتل، و العفو للقاتل إنما يكون في حق القصاص فالمراد بالشيء هو الحق، و في تنكيره تعميم للحكم أي أي حق كان سواء كان تمام الحق أو بعضه كما إذا تعدد أولياء الدم فعفى بعضهم حقه للقاتل فلا قصاص حينئذ بل الدية، و في التعبير عن ولي الدم بالأخ إثارة لحس المحبة و الرأفة و تلويح إلى أن العفو أحب.
قوله تعالى: فاتباع بالمعروف و أداء إليه بإحسان، مبتدأ خبره محذوف أي فعليه أن يتبع القاتل في مطالبة الدية بمصاحبة المعروف، من الاتباع و على القاتل أن يؤدي الدية إلى أخيه ولي الدم بالإحسان من غير مماطلة فيها إيذاؤه.
قوله تعالى: ذلك تخفيف من ربكم و رحمة، أي الحكم بانتقال القصاص إلى الدية تخفيف من ربكم فلا يتغير فليس لولي الدم أن يقتص بعد العفو فيكون اعتداء فمن اعتدى فاقتص بعد العفو فله عذاب أليم.
قوله تعالى: و لكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون، إشارة إلى حكمة التشريع، و دفع ما ربما يتوهم من تشريع العفو و الدية و بيان المزية و المصلحة التي في العفو و هو نشر الرحمة و إيثار الرأفة أن العفو أقرب إلى مصلحة الناس، و حاصله أن العفو و لو كان فيه ما فيه من التخفيف و الرحمة، لكن المصلحة العامة قائمة بالقصاص فإن الحياة لا يضمنها إلا القصاص دون العفو و الدية و لا كل شيء مما عداهما، يحكم بذلك الإنسان إذا كان ذا لب و قوله لعلكم تتقون، أي القتل و هو بمنزلة التعليل لتشريع القصاص.
و قد ذكروا: أن الجملة، أعني قوله تعالى: و لكم في القصاص حيوة الآية على اختصارها و إيجازها و قلة حروفها و سلاسة لفظها و صفاء تركيبها من أبلغ آيات القرآن في بيانها، و أسماها في بلاغتها فهي جامعة بين قوة الاستدلال و جمال المعنى و لطفه، و رقة الدلالة و ظهور المدلول، و قد كان للبلغاء قبلها كلمات في القتل و القصاص تعجبهم بلاغتها و جزالة أسلوبها و نظمها كقولهم: قتل البعض إحياء للجميع و قولهم: أكثروا القتل ليقل القتل، و أعجب من الجميع عندهم قولهم: القتل أنفى للقتل غير أن الآية أنست الجميع و نفت الكل: و لكم في القصاص حيوة فإن الآية أقل حروفا و أسهل في التلفظ، و فيها تعريف القصاص و تنكير الحياة ليدل على أن النتيجة أوسع من القصاص و أعظم و هي مشتملة على بيان النتيجة و على بيان حقيقة المصلحة و هي الحياة، و هي متضمن حقيقة المعنى المفيد للغاية فإن القصاص هو المؤدي إلى الحياة دون القتل فإن من القتل ما يقع عدوانا ليس يؤدي إلى الحياة، و هي مشتملة على أشياء أخر غير القتل يؤدي إلى الحياة و هي أقسام القصاص في غير القتل، و هي مشتملة على معنى زائد آخر، و هو معنى المتابعة التي تدل عليها كلمة القصاص بخلاف قولهم القتل أنفى للقتل، و هي مع ذلك متضمنة للحث و الترغيب فإنها تدل على حياة مذخورة للناس مغفول عنها يملكونها فعليهم أن يأخذوا بها نظير ما تقول: لك في مكان كذا أو عند فلان مالا و ثروة، و هي ذلك تشير إلى أن القائل لا يريد بقوله هذا إلا حفظ منافعهم و رعاية مصلحتهم من غير عائد يعود إليه حيث قال: و لكم.
فهذه وجوه من لطائف ما تشتمل عليه هذه الآية، و ربما ذكر بعضهم وجوها أخرى يعثر عليه المراجع غير أن الآية كلما زدت فيه تدبرا زادتك في تجلياتها بجمالها و غلبتك بهور نورها - و كلمة الله هي العليا.
بحث روائي
في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى الحر بالحر، قال: لا يقتل الحر بالعبد و لكن يضرب ضربا شديدا و يغرم دية العبد و إن قتل رجل امرأة فأراد أولياء المقتول أن يقتلوه أدوا نصف ديته إلى أولياء الرجل.
و في الكافي، عن الحلبي عن الصادق (عليه السلام): قال سألته عن قول الله عز و جل فمن تصدق به فهو كفارة له، قال: يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما عفا، و سألته عن قوله عز و جل: فمن عفي له من أخيه شيء - فاتباع بالمعروف و أداء إليه بإحسان، قال: ينبغي للذي له الحق أن لا يعسر أخاه إذا كان قد صالحه على دية و ينبغي للذي عليه الحق أن لا يمطل أداه إذا قدر على ما يعطيه و يؤدي إليه بإحسان، و سألته عن قول الله عز و جل: فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم، قال هو الرجل يقبل الدية أو يعفو أو يصالح ثم يعتدي فيقتل كما قال الله عز و جل. أقول: و الروايات في هذه المعاني كثيرة.
بحث علمي
كانت العرب أوان نزول آية القصاص و قبله تعتقد القصاص بالقتل لكنها ما كانت تحده بحد و إنما يتبع ذلك قوة القبائل و ضعفها فربما قتل الرجل بالرجل و المرأة بالمرأة فسلك في القتل مسلك التساوي و ربما قتل العشرة بالواحد و الحر بالعبد و الرئيس بالمرءوس و ربما أبادت قبيلة قبيلة أخرى لواحد قتل منها.
و كانت اليهود تعتقد القصاص كما ورد في الفصل الحادي و العشرين و الثاني و العشرين من الخروج و الخامس و الثلاثين من العدد، و قد حكاه القرآن حيث قال تعالى: «و كتبنا لهم فيها أن النفس بالنفس و العين بالعين و الأنف بالأنف و الأذن بالأذن و السن بالسن و الجروح قصاص»: المائدة - 45.
و كانت النصارى على ما يحكى لا ترى في مورد القتل إلا العفو و الدية، و سائر الشعوب و الأمم على اختلاف طبقاتهم ما كانت تخلو عن القصاص في القتل في الجملة و إن لم يضبطه ضابط تام حتى القرون الأخيرة.
و الإسلام سلك في ذلك مسلكا وسطا بين الإلغاء و الإثبات فأثبت القصاص و ألغى تعينه بل أجاز العفو و الدية ثم عدل القصاص بالمعادلة بين القاتل و المقتول، فالحر بالحر و العبد بالعبد و الأنثى بالأنثى.
و قد اعترض على القصاص مطلقا و على القصاص بالقتل خاصة بأن القوانين المدنية التي وضعتها الملل الراقية لا ترى جوازها و إجراءها بين البشر اليوم.
قالوا: إن القتل بالقتل مما يستهجنه الإنسان و ينفر عنه طبعه و يمنع عنه وجدانه إذا عرض عليه رحمة و خدمة للإنسانية، و قالوا: إذا كان القتل الأول فقدا لفرد فالقتل الثاني فقد على فقد، و قالوا: إن القتل بالقصاص من القسوة و حب الانتقام، و هذه صفة يجب أن تزاح عن الناس بالتربية العامة و يؤخذ في القاتل أيضا بعقوبة التربية، و ذلك إنما يكون بما دون القتل من السجن و الأعمال الشاقة، و قالوا: إن المجرم إنما يكون مجرما إذا كان مريض العقل فالواجب أن يوضع القاتل المجرم في المستشفيات العقلية و يعالج فيها، و قالوا: إن القوانين المدنية تتبع الاجتماع الموجود، و لما كان الاجتماع غير ثابت على حال واحد كانت القوانين كذلك فلا وجه لثبوت القصاص بين الاجتماع للأبد حتى الاجتماعات الراقية اليوم، و من اللازم أن يستفيد الاجتماع من وجود أفرادها ما استيسر، و من الممكن أن يعاقب المجرم بما دون القتل مما يعادل القتل من حيث الثمرة و النتيجة كحبس الأبد أو حبس مدة سنين و فيه الجمع بين الحقين حق المجتمع و حق أولياء الدم، فهذه الوجوه عمدة ما ذكره المنكرون لتشريع القصاص بالقتل.
و قد أجاب القرآن عن جميع هذه الوجوه بكلمة واحدة، و هي قوله تعالى: من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا و من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا»: المائدة - 32.
بيان ذلك: أن القوانين الجارية بين أفراد الإنسان و إن كانت وضعية اعتبارية يراعى فيها مصالح الاجتماع الإنساني غير أن العلة العاملة فيها من أصلها هي الطبيعة الخارجية الإنسانية الداعية إلى تكميل نقصها و رفع حوائجها التكوينية، و هذه الواقعية الخارجية ليست هي العدد العارض على الإنسان و لا الهيأة الواحدة الاجتماعية فإنها نفسها من صنع الوجود الكوني الإنساني بل هي الإنسان و طبيعته و ليس بين الواحد من الإنسان و الألوف المجتمعة منه فرق في أن الجميع إنسان و وزن الواحد و الجميع واحد من حيث الوجود.
و هذه الطبيعة الوجودية تجهزت في نفسها بقوى و أدوات تدفع بها عن نفسها العدم لكونها مفطورة على حب الوجود، و تطرد كل ما يسلب عنه الحياة بأي وسيلة أمكنت و إلى أي غاية بلغت حتى القتل و الإعدام، و لذا لا تجد إنسانا لا تقضي فطرته بتجويز قتل من يريد قتله و لا ينتهي عنه إلا به، و هذه الأمم الراقية أنفسهم لا يتوقفون عن الحرب دفاعا عن استقلالهم و حريتهم و قوميتهم، فكيف بمن أراد قتل نفوسهم عن آخرها، و يدفعون عن بطلان القانون بالغا ما بلغ حتى بالقتل و يتوسلون إلى حفظ منافعهم بالحرب إذا لم يعالج الداء بغيرها، تلك الحرب التي فيها فناء الدنيا و هلاك الحرث و النسل و لا يزال ملل يتقدمون بالتسليحات و آخرون يتجهزون بما يجاوبهم، و ليس ذلك كله إلا رعاية لحال الاجتماع و حفظا لحياته و ليس الاجتماع إلا صنيعة من صنائع الطبيعة فما بال الطبيعة يجوز القتل الذريع و الإفناء و الإبادة لحفظ صنيعة من صنائعها، و هي الاجتماع المدني و لا تجوزها لحفظ حياة نفسها؟ و ما بالها تجوز قتل من يهم بالقتل و لم يفعل و لا تجوزه فيمن هم و فعل؟ و ما بال الطبيعة تقضي بالانعكاس في الوقائع التاريخية، فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، و من يعمل مثقال ذرة شرا يره و لكل عمل عكس عمل في قانونها لكنها تعد القتل في مورد القتل ظلما و تنقض حكم نفسها.
على أن الإسلام لا يرى في الدنيا قيمة للإنسان يقوم بها و لا وزنا يوزن به إلا إذا كان على دين التوحيد فوزن الاجتماع الإنساني و وزن الموحد الواحد عنده سيان، فمن الواجب أن يكون حكمهما عنده واحدا، فمن قتل مؤمنا كان كمن قتل الناس جميعا من نظر إزرائه و هتكه لشرف الحقيقة كما أن من قتل نفسا كان كمن قتل الناس جميعا من نظر الطبيعة الوجودية، و أما الملل المتمدنة فلا يبالون بالدين و لو كانت شرافة الدين عندهم تعادل في قيمتها أو وزنها - فضلا عن التفوق - الاجتماع المدني في الفضل لحكموا فيه بما حكموا في ذلك.
على أن الإسلام يشرع للدنيا لا لقوم خاص و أمة معينة، و الملل الراقية إنما حكمت بما حكمت بعد ما أذعنت بتمام التربية في أفرادها و حسن صنيع حكوماتها و دلالة الإحصاء في مورد الجنايات و الفجائع على أن التربية الموجودة مؤثرة و أن الأمة في أثر تربيتهم متنفرة عن القتل و الفجيعة فلا تتفق بينهم إلا في الشذوذ و إذا اتفقت فهي ترتضي المجازاة بما دون القتل، و الإسلام لا يأبى عن تجويز هذه التربية و أثرها الذي هو العفو مع قيام أصل القصاص على ساق.
و يلوح إليه قوله تعالى: في آية القصاص فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف و أداء إليه بإحسان، فاللسان لسان التربية و إذا بلغ قوم إلى حيث أذعنوا بأن الفخر العمومي في العفو لم ينحرفوا عنه إلى مسلك الانتقام.
و أما غير هؤلاء الأمم فالأمر فيها على خلاف ذلك و الدليل عليه ما نشاهده من حال الناس و أرباب الفجيعة و الفساد فلا يخوفهم حبس و لا عمل شاق و لا بصدهم وعظ و نصح، و ما لهم من همة و لا ثبات على حق إنساني، و الحياة المعدة لهم في السجون أرفق و أعلى و أسنى مما لهم في أنفسهم من المعيشة الردية الشقية فلا يوحشهم لوم و لا ذم، و لا يدهشهم سجن و لا ضرب، و ما نشاهده أيضا من ازدياد عدد الفجائع في الإحصاءات يوما فيوما فالحكم العام الشامل للفريقين - و الأغلب منهما الثاني - لا يكون إلا القصاص و جواز العفو فلو رقت الأمة و ربيت تربية ناجحة أخذت بالعفو و الإسلام لا يألو جهده في التربية و لو لم يسلك إلا الانحطاط أو كفرت بأنعم ربها و فسقت، أخذ فيهم بالقصاص و يجوز معه العفو.
و أما ما ذكروه من حديث الرحمة و الرأفة بالإنسانية فما كل رأفة بمحمودة و لا كل رحمة فضيلة، فاستعمال الرحمة في مورد الجاني القسي و العاصي المتخلف المتمرد و المتعدي على النفس و العرض جفاء على صالح الأفراد، و في استعمالها المطلق اختلال النظام و هلاك الإنسانية و إبطال الفضيلة.
و أما ما ذكروه أنه من القسوة و حب الانتقام فالقول فيه كسابقه، فالانتقام للمظلوم من ظالمه استظهارا للعدل و الحق ليس بمذموم قبيح، و لا حب العدل من رذائل الصفات، على أن تشريع القصاص بالقتل غير ممحض في الانتقام بل فيه ملاك التربية العامة و سد باب الفساد.
و أما ما ذكروه من كون جناية القتل من الأمراض العقلية التي يجب أن يعالج في المستشفيات فهو من الأعذار و نعم العذر الموجبة لشيوع القتل و الفحشاء و نماء الجناية في الجامعة الإنسانية، و أي إنسان منا يحب القتل و الفساد علم أن ذلك فيه مرض عقلي و عذر مسموع يجب على الحكومة أن يعالجه بعناية و رأفة و أن القوة الحاكمة و التنفيذية تعتقد فيه ذلك لم يقدم معه كل يوم على قتل.
و أما ما ذكروه من لزوم الاستفادة من وجود المجرمين بمثل الأعمال الإجبارية و نحوها مع حبسهم و منعهم عن الورود في الاجتماع فلو كان حقا متكئا على حقيقة فما بالهم لا يقضون بمثله في موارد الإعدام القانوني التي توجد في جميع القوانين الدائرة اليوم بين الأمم؟ و ليس ذلك إلا للأهمية التي يرونها للإعدام في موارده، و قد مر أن الفرد و المجتمع في نظر الطبيعة من حيث الأهمية متساويان.
|