بيان
الآية تبين السبب في تشريع أصل الدين و تكليف النوع الإنساني به، و سبب وقوع الاختلاف فيه ببيان: أن الإنسان - و هو نوع مفطور على الاجتماع و التعاون - كان في أول اجتماعه أمة واحدة، ثم ظهر فيه بحسب الفطرة الاختلاف في اقتناء المزايا الحيوية، فاستدعى ذلك وضع قوانين ترفع الاختلافات الطارئة، و المشاجرات في لوازم الحياة فألبست القوانين الموضوعة لباس الدين، و شفعت بالتبشير و الإنذار: بالثواب و العقاب، و أصلحت بالعبادات المندوبة إليها ببعث النبيين، و إرسال المرسلين، ثم اختلفوا في معارف الدين أو أمور المبدإ و المعاد، فاختل بذلك أمر الوحدة الدينية، و ظهرت الشعوب و الأحزاب، و تبع ذلك الاختلاف في غيره، و لم يكن هذا الاختلاف الثاني إلا بغيا من الذين أوتوا الكتاب، و ظلما و عتوا منهم بعد ما تبين لهم أصوله و معارفه، و تمت عليهم الحجة، فالاختلاف اختلافان: اختلاف في أمر الدين مستند إلى بغي الباغين دون فطرتهم و غريزتهم، و اختلاف في أمر الدنيا و هو فطري و سبب لتشريع الدين، ثم هدى الله سبحانه المؤمنين إلى الحق المختلف فيه بإذنه، و الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
فالدين الإلهي هو السبب الوحيد لسعادة هذا النوع الإنساني، و المصلح لأمر حياته، يصلح الفطرة بالفطرة و يعدل قواها المختلفة عند طغيانها، و ينظم للإنسان سلك حياته الدنيوية و الأخروية، و المادية و المعنوية، فهذا إجمال تاريخ حياة هذا النوع الحياة الاجتماعية و الدينية على ما تعطيه هذه الآية الشريفة.
و قد اكتفت في تفصيل ذلك بما تفيده متفرقات الآيات القرآنية النازلة في شئون مختلفة.
بدء تكوين الإنسان
و محصل ما تبينه تلك الآيات على تفرقها أن النوع الإنساني و لا كل نوع إنساني بل هذا النسل الموجود من الإنسان ليس نوعا مشتقا من نوع آخر حيواني أو غيره: حولته إليه الطبيعة المتحولة المتكاملة، بل هو نوع أبدعه الله تعالى من الأرض، فقد كانت الأرض و ما عليها و السماء و لا إنسان ثم خلق زوجان اثنان من هذا النوع و إليهما ينتهي هذا النسل الموجود، قال تعالى: «إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل:» الحجرات - 13، و قال تعالى: «خلقكم من نفس واحدة و جعل منها زوجها:» الأعراف - 189، و قال تعالى: «كمثل آدم خلقه من تراب:» آل عمران - 59، و أما ما افترضه علماء الطبيعة من تحول الأنواع و أن الإنسان مشتق من القرد، و عليه مدار البحث الطبيعي اليوم أو متحول من السمك على ما احتمله بعض فإنما هي فرضية، و الفرضية غير مستند إلى العلم اليقيني و إنما توضع لتصحيح التعليلات و البيانات العلمية، و لا ينافي اعتبارها اعتبار الحقائق اليقينية، بل حتى الإمكانات الذهنية، إذ لا اعتبار لها أزيد من تعليل الآثار و الأحكام المربوطة بموضوع البحث، و سنستوعب هذا البحث إن شاء الله في سورة آل عمران في قوله تعالى: «إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب:» آل عمران - 59.
تركبه من روح و بدن
و قد أنشأ الله سبحانه هذا النوع، حين ما أنشأ مركبا من جزءين و مؤلفا من جوهرين، مادة بدنية، و جوهر مجرد هي النفس و الروح، و هما متلازمان و متصاحبان ما دامت الحياة الدنيوية، ثم يموت البدن و يفارقه الروح الحية، ثم يرجع الإنسان إلى الله سبحانه قال تعالى: «و لقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ثم إنكم بعد ذلك لميتون ثم إنكم يوم القيامة تبعثون:» المؤمنون - 16، انظر إلى موضع قوله ثم أنشأناه خلقا آخر، و في هذا المعنى قوله تعالى: «فإذا سويته و نفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين:» ص - 72، و أوضح من الجميع قوله سبحانه «و قالوا أ إذا ضللنا في الأرض أ ئنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون قل يتوفيكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون:» السجدة - 11، فإنه تعالى أجاب عن إشكالهم بتفرق الأعضاء و الأجزاء و استهلاكها في الأرض بعد الموت فلا تصلح للبعث بأن ملك الموت يتوفاهم و يضبطهم فلا يدعهم، فهم غير أبدانهم! فأبدانهم تضل في الأرض لكنهم أي نفوسهم غير ضالة و لا فائتة و لا مستهلكة، و سيجيء إن شاء الله استيفاء البحث عما يعطيه القرآن في حقيقة الروح الإنساني في المحل المناسب له.
شعوره الحقيقي و ارتباطه بالأشياء
و قد خلق الله سبحانه هذا النوع، و أودع فيه الشعور، و ركب فيه السمع و البصر و الفؤاد ففيه قوة الإدراك و الفكر، بها يستحضر ما هو ظاهر عنده من الحوادث و ما هو موجود في الحال و ما كان و ما سيكون و يئول إليه أمر الحدوث و الوقوع، فله إحاطة ما بجميع الحوادث، قال تعالى: «علم الإنسان ما لم يعلم:» العلق 5، و قال تعالى: «و الله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا و جعل لكم السمع و الأبصار و الأفئدة:» النحل - 78، و قال تعالى «و علم آدم الأسماء كلها:» البقرة - 31، و قد اختار تعالى لهذا النوع سنخ وجود يقبل الارتباط بكل شيء، و يستطيع الانتفاع من كل أمر، أعم من الاتصال أو التوسل به إلى غيره بجعله آلة و أداة للاستفادة من غيره، كما نشاهده من عجيب احتيالاته الصناعية، و سلوكه في مسالكه الفكرية، قال تعالى: «خلق لكم ما في الأرض جميعا»: البقرة - 29، و قال تعالى: «و سخر لكم ما في السموات و الأرض جميعا منه:» الجاثية - 13، إلى غير ذلك من الآيات الناطقة بكون الأشياء مسخرة للإنسان.
علومه العملية
و أنتجت هاتان العنايتان: أعني قوة الفكر و الإدراك و رابطة التسخير عناية ثالثة عجيبة و هي أن يهيىء لنفسه علوما و إدراكات يعتبرها اعتبارا للورود في مرحلة التصرف في الأشياء و فعلية التأثير و الفعل في الموجودات الخارجة عنه للانتفاع بذلك في حفظ وجوده و بقائه. توضيح ذلك: أنك إذا خليت ذهنك و أقبلت به على الإنسان، هذا الموجود الأرضي الفعال بالفكر و الإرادة، و اعتبرت نفسك كأنك أول ما تشاهده و تقبل عليه وجدت الفرد الواحد منه أنه في أفعاله الحيوية يوسط إدراكات و أفكار جمة غير محصورة يكاد يدهش من كثرتها و اتساع أطرافها و تشتت جهاتها العقل، و هي علوم كانت العوامل في حصولها و اجتماعها و تجزيها و تركبها الحواس الظاهرة و الباطنة من الإنسان، أو تصرف القوة الفكرية فيها تصرفا ابتدائيا أو تصرفا بعد تصرف، و هذا أمر واضح يجده كل إنسان من نفسه و من غيره لا يحتاج في ذلك إلى أزيد من تنبيه و إيقاظ.
ثم إذا كررت النظر في هذه العلوم و الإدراكات وجدت شطرا منها لا يصلح لأن يتوسط بين الإنسان و بين أفعاله الإرادية كمفاهيم الأرض و السماء و الماء و الهواء و الإنسان و الفرس و نحو ذلك من التصورات، و كمعاني قولنا: الأربعة زوج، و الماء جسم سيال و التفاح أحد الثمرات، و غير ذلك من التصديقات، و هي علوم و إدراكات تحققت عندنا من الفعل و الانفعال الحاصل بين المادة الخارجية و بين حواسنا و أدواتنا الإدراكية، و نظيرها علمنا الحاصل لنا من مشاهدة نفوسنا و حضورها لدينا ما نحكي عنه بلفظ أنا، و الكليات الآخر المعقولة، فهذه العلوم و الإدراكات لا يوجب حصولها لنا تحقق إرادة و لا صدور فعل، بل إنما تحكي عن الخارج حكاية.
و هناك شطر آخر بالعكس من الشطر السابق كقولنا: إن هناك حسنا و قبحا و ما ينبغي أن يفعل و ما يجب أن يترك، و الخير يجب رعايته، و العدل حسن، و الظلم قبيح و مثل مفاهيم الرئاسة و المرءوسية، و العبدية و المولوية فهذه سلسلة من الأفكار و الإدراكات لا هم لنا إلا أن نشتغل بها و نستعملها و لا يتم فعل من الأفعال الإرادية إلا بتوسيطها و التوسل بها لاقتناء الكمال و حيازة مزايا الحياة.
و هي مع ذلك لا تحكي عن أمور خارجية ثابتة في الخارج مستقلة عنا و عن أفهامنا كما كان الأمر كذلك في القسم الأول فهي علوم و إدراكات غير خارجة عن محوطة العمل و لا حاصلة فينا عن تأثير العوامل الخارجية، بل هي مما هيأناه نحن و ألهمناه من قبل إحساسات باطنية حصلت فينا من جهة اقتضاء قوانا الفعالة، و جهازاتنا العاملة للفعل و العمل، فقوانا الغاذية أو المولدة للمثل بنزوعها نحو العمل، و نفورها عما لا يلائمها يوجب حدوث صور من الإحساسات: كالحب و البغض، و الشوق و الميل و الرغبة، ثم هذه الصور الإحساسية تبعثنا إلى اعتبار هذه العلوم و الإدراكات من معنى الحسن و القبح، و ينبغي و لا ينبغي، و يجب و يجوز، إلى غير ذلك، ثم بتوسطها بيننا و بين المادة الخارجية و فعلنا المتعلق بها يتم لنا الأمر، فقد تبين أن لنا علوما و إدراكات لا قيمة لها إلا العمل، و هي المسماة بالعلوم العملية و لاستيفاء البحث عنها محل آخر.
و الله سبحانه ألهمها الإنسان ليجهزه للورود في مرحلة العمل، و الأخذ بالتصرف في الكون، ليقضي الله أمرا كان مفعولا، قال تعالى: «الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى:» طه - 50، و قال تعالى: «الذي خلق فسوى و الذي قدر فهدى:» الأعلى - 3، و هذه هداية عامة لكل موجود مخلوق إلى ما هو كمال وجوده، و سوق له إلى الفعل و العمل لحفظ وجوده و بقائه، سواء كان ذا شعور أو فاقدا للشعور.
و قال تعالى في الإنسان خاصة: «و نفس و ما سواها فألهمها فجورها و تقويها:» الشمس - 8، فأفاد أن الفجور و التقوى معلومان للإنسان بإلهام فطري منه تعالى، و هما ما ينبغي أن يفعله أو يراعيه و ما لا ينبغي، و هي العلوم العملية التي لا اعتبار لها خارجة عن النفس الإنسانية، و لعله إليه الإشارة بإضافة الفجور و التقوى إلى النفس.
و قال تعالى: «و ما هذه الحياة الدنيا إلا لهو و لعب و إن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون:» العنكبوت - 64، فإن اللعب لا حقيقة له إلا الخيال فقط، كذا الحياة الدنيا: من جاه و مال و تقدم و تأخر و رئاسة و مرءوسية و غير ذلك إنما هي أمور خيالية لا واقع لها في الخارج عن ذهن الذاهن، بمعنى أن الذي في الخارج إنما هو حركات طبيعية يتصرف بها الإنسان في المادة من غير فرق في ذلك بين أفراد الإنسان و أحواله.
فالموجود بحسب الواقع من «الإنسان الرئيس» إنسانيته، و أما رئاسته فإنما هي في الوهم، و من «الثوب المملوك» الثوب مثلا، و أما إنه مملوك فأمر خيالي لا يتجاوز حد الذهن، و على هذا القياس.
جريه على استخدام غيره انتفاعا
فهذه السلسلة من العلوم و الإدراكات هي التي تربط الإنسان بالعمل في المادة، و من جملة هذه الأفكار و التصديقات تصديق الإنسان بأنه يجب أن يستخدم كل ما يمكنه استخدامه في طريق كماله، و بعبارة أخرى إذعانه بأنه ينبغي أن ينتفع لنفسه، و يستبقي حياته بأي سبب أمكن و بذلك يأخذ في التصرف في المادة، و يعمل آلات من المادة، يتصرف بها في المادة كاستخدام السكين للقطع، و استخدام الإبرة للخياطة، و استخدام الإناء لحبس المائعات، و استخدام السلم للصعود، إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة، و لا يحد من حيث التركيب و التفصيل، و أنواع الصناعات و الفنون المتخذة لبلوغ المقاصد و الأغراض المنظور فيها.
و بذلك يأخذ الإنسان أيضا في التصرف في النبات بأنواع التصرف، فيستخدم أنواع النبات بالتصرف فيها في طريق الغذاء و اللباس و السكنى و غير ذلك، و بذلك يستخدم أيضا أنواع الحيوان في سبيل منافع حياته، فينتفع من لحمها و دمها و جلدها و شعرها و وبرها و قرنها و روثها و لبنها و نتاجها و جميع أفعالها، و لا يقتصر على سائر الحيوان دون أن يستخدم سائر أفراد نوعه من الآدميين، فيستخدمها كل استخدام ممكن، و يتصرف في وجودها و أفعالها بما يتيسر له من التصرف، كل ذلك مما لا ريب فيه.
كونه مدنيا بالطبع
غير أن الإنسان لما وجد سائر الأفراد من نوعه، و هم أمثاله، يريدون منه ما يريده منهم، صالحهم و رضي منهم أن ينتفعوا منه وزان ما ينتفع منهم، و هذا حكمه بوجوب اتخاذ المدنية، و الاجتماع التعاوني، و يلزمه الحكم بلزوم استقرار الاجتماع بنحو ينال كل ذي حق حقه، و يتعادل النسب و الروابط، و هو العدل الاجتماعي.
فهذا الحكم أعني حكمه بالاجتماع المدني، و العدل الاجتماعي إنما هو حكم دعا إليه الاضطرار، و لو لا الاضطرار المذكور لم يقض به الإنسان أبدا، و هذا معنى ما يقال: إن الإنسان مدني بالطبع، و إنه يحكم بالعدل الاجتماعي، فإن ذلك أمر ولده حكم الاستخدام المذكور اضطرارا على ما مر بيانه، و لذلك كلما قوي إنسان على آخر ضعف حكم الاجتماع التعاوني و حكم العدل الاجتماعي أثرا فلا يراعيه القوي في حق الضعيف و نحن نشاهد ما يقاسيه ضعفاء الملل من الأمم القوية، و على ذلك جرى التاريخ أيضا إلى هذا اليوم الذي يدعى أنه عصر الحضارة و الحرية.
و هو الذي يستفاد من كلامه تعالى كقوله تعالى: «إنه كان ظلوما جهولا:» الأحزاب - 72، و قوله تعالى: «إن الإنسان خلق هلوعا:» المعارج - 19، و قوله تعالى: «إن الإنسان لظلوم كفار:» إبراهيم - 34، و قوله تعالى: «إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى:» العلق - 7.
و لو كان العدل الاجتماعي مما يقتضيه طباع الإنسان اقتضاء أوليا لكان الغالب على الاجتماعات في شئونها هو العدل، و حسن تشريك المساعي، و مراعاة التساوي، مع أن المشهود دائما خلاف ذلك، و إعمال القدرة و الغلبة و تحميل القوي العزيز مطالبه الضعيف، و استدلال الغالب للمغلوب و استعباده في طريق مقاصده و مطامعه.
حدوث الاختلاف بين أفراد الإنسان
و من هنا يعلم أن قريحة الاستخدام في الإنسان بانضمامها إلى الاختلاف الضروري بين الأفراد من حيث الخلقة و منطقة الحياة و العادات و الأخلاق المستندة إلى ذلك، و إنتاج ذلك للاختلاف الضروري من حيث القوة و الضعف يؤدي إلى الاختلاف و الانحراف عن ما يقتضيه الاجتماع الصالح من العدل الاجتماعي، فيستفيد القوي من الضعيف أكثر مما يفيده، و ينتفع الغالب من المغلوب من غير أن ينفعه و يقابله الضعيف المغلوب ما دام ضعيفا مغلوبا بالحيلة و المكيدة و الخدعة، فإذا قوي و غلب قابل ظالمه بأشد الانتقام، فكان بروز الاختلاف مؤديا إلى الهرج و المرج، و داعيا إلى هلاك الإنسانية، و فناء الفطرة، و بطلان السعادة.
و إلى ذلك يشير تعالى بقوله: «و ما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا:» يونس - 19، و قوله تعالى: «و لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك و لذلك خلقهم:» هود - 119، و قوله تعالى في الآية المبحوث عنها: «ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه» الآية.
و هذا الاختلاف كما عرفت ضروري الوقوع بين أفراد المجتمعين من الإنسان لاختلاف الخلقة باختلاف المواد، و إن كان الجميع إنسانا بحسب الصورة الإنسانية الواحدة، و الوحدة في الصورة تقتضي الوحدة من حيث الأفكار و الأفعال بوجه، و اختلاف المواد يؤدي إلى اختلاف الإحساسات و الإدراكات و الأحوال في عين أنها متحدة بنحو، و اختلافها يؤدي إلى اختلاف الأغراض و المقاصد و الآمال، و اختلافها يؤدي إلى اختلاف الأفعال، و هو المؤدي إلى اختلال نظام الاجتماع.
و ظهور هذا الاختلاف هو الذي استدعى التشريع، و هو جعل قوانين كلية يوجب العمل بها ارتفاع الاختلاف، و نيل كل ذي حق حقه، و تحميلها الناس.
و الطريق المتخذ اليوم لتحميل القوانين المصلحة لاجتماع الإنسان أحد طريقين الأول: إلجاء الاجتماع على طاعة القوانين الموضوعة لتشريك الناس في حق الحياة و تسويتهم في الحقوق، بمعنى أن ينال كل من الأفراد ما يليق به من كمال الحياة، مع إلغاء المعارف الدينية: من التوحيد و الأخلاق الفاضلة، و ذلك بجعل التوحيد ملغى غير منظور إليه و لا مرعي، و جعل الأخلاق تابعة للاجتماع و تحوله، فما وافق حال الاجتماع من الأخلاق فهو الخلق الفاضل، فيوما العفة، و يوما الخلاعة، و يوما الصدق، و يوما الكذب، و يوما الأمانة، و يوما الخيانة، و هكذا.
و الثاني: إلجاء الاجتماع على طاعة القوانين بتربية ما يناسبها من الأخلاق و احترامها مع إلغاء المعارف الدينية في التربية الاجتماعية.
و هذان طريقان مسلوكان في رفع الاختلافات الاجتماعية و توحيد الأمة المجتمعة من الإنسان: أحدهما بالقوة المجبرة و القدرة المتسلطة من الإنسان فقط، و ثانيهما بالقوة و التربية الخلقية، لكنهما على ما يتلوهما من المفاسد مبنيان على أساس الجهل، فيه بوار هذا النوع و هلاك الحقيقة الإنسانية، فإن هذا الإنسان موجود مخلوق لله متعلق الوجود بصانعه، بدأ من عنده و سيعود إليه، فله حياة باقية بعد الارتحال من هذه النشأة الدنيوية، حياة طويلة الذيل، غير منقطع الأمد، و هي مرتبة على هذه الحياة الدنيوية، و كيفية سلوك الإنسان فيها، و اكتسابه الأحوال و الملكات المناسبة للتوحيد الذي هو كونه عبدا لله سبحانه، بادئا منه عائدا إليه، و إذا بنى الإنسان حياته في هذه الدنيا على نسيان توحيده، و ستر حقيقة الأمر فقد أهلك نفسه، و أباد حقيقته.
فمثل الناس في سلوك هذين الطريقين كمثل قافلة أخذت في سلوك الطريق إلى بلد ناء معها ما يكفيها من الزاد و لوازم السير، ثم نزلت في أحد المنازل في أثناء الطريق فلم يلبث هنيئة حتى أخذت في الاختلاف: من قتل، و ضرب و، هتك عرض، و أخذ مال و غصب مكان و غير ذلك، ثم اجتمعوا يتشاورون بينهم على اتخاذ طريقة يحفظونها لصون أنفسهم و أموالهم.
فقال قائل منهم: عليكم بالاشتراك في الانتفاع من هذه الأعراض و الأمتعة، و التمتع على حسب ما لكل من الوزن الاجتماعي، فليس إلا هذا المنزل و المتخلف عن ذلك يؤخذ بالقوة و السياسة.
و قال قائل منهم: ينبغي أن تضعوا القانون المصلح لهذا الاختلاف على أساس الشخصيات الموجودة الذي جئتم بها من بلدكم الذي خرجتم منه، فيتأدب كل بما له من الشخصية الخلقية، و يأخذ بالرحمة لرفقائه، و العطوفة و الشهامة و الفضيلة، ثم تشتركوا مع ذلك في الانتفاع عن هذه الأمتعة الموجودة، فليست إلا لكم و لمنزلكم هذا.
و قد أخطأ القائلان جميعا، و سهيا عن أن القافلة جميعا على جناح سفر، و من الواجب على المسافر أن يراعي في جميع أحواله حال وطنه و حال غاية سفره التي يريدها فلو نسي شيئا من ذلك لم يكن يستقبله إلا الضلال و الغي و الهلاك.
و القائل المصيب بينهم هو من يقول: تمتعوا من هذه الأمتعة على حسب ما يكفيكم لهذه الليلة، و خذوا من ذلك زادا لما هو أمامكم من الطريق، و ما أريد منكم في وطنكم، و ما تريدونه لمقصدكم.
رفع الاختلاف بالدين
و لذلك شرع الله سبحانه ما شرعه من الشرائع و القوانين واضعا ذلك على أساس التوحيد، و الاعتقاد و الأخلاق و الأفعال، و بعبارة أخرى وضع التشريع مبني على أساس تعليم الناس و تعريفهم ما هو حقيقة أمرهم من مبدئهم إلى معادهم، و أنهم يجب أن يسلكوا في هذه الدنيا حياة تنفعهم في غد، و يعملوا في العاجل ما يعيشون به في الآجل، فالتشريع الديني و التقنين الإلهي هو الذي بني على العلم فقط دون غيره، قال تعالى: «إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم و لكن أكثر الناس لا يعلمون: يوسف - 40، و قال تعالى في هذه الآية المبحوث عنها: «فبعث الله النبيين مبشرين و منذرين و أنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه» الآية، فقارن بعثة الأنبياء بالتبشير و الإنذار بإنزال الكتاب المشتمل على الأحكام و الشرائع الرافعة لاختلافهم.
و من هذا الباب قوله تعالى: «و قالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت و نحيا و ما يهلكنا إلا الدهر و ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون:» الجاثية - 24، فإنهم إنما كانوا يصرون على قولهم ذلك، لا لدفع القول بالمعاد فحسب، بل لأن القول بالمعاد و الدعوة إليه كان يستتبع تطبيق الحياة الدنيوية على الحياة بنحو العبودية، و طاعة قوانين دينية مشتملة على مواد و أحكام تشريعية: من العبادات و المعاملات و السياسات.
و بالجملة القول بالمعاد كان يستلزم التدين بالدين، و اتباع أحكامه في الحياة، و مراقبة البعث و المعاد في جميع الأحوال و الأعمال، فردوا ذلك ببناء الحياة الاجتماعية على مجرد الحياة الدنيا من غير نظر إلى ما ورائها.
و كذا قوله تعالى: «إن الظن لا يغني من الحق شيئا فأعرض عمن تولى عن ذكرنا و لم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم:» النجم - 30، فبين تعالى أنهم يبنون الحياة على الظن و الجهل، و الله سبحانه يدعو إلى دار السلام، و يبني دينه على الحق و العلم، و الرسول يدعو الناس إلى ما يحييهم، قال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله و للرسول إذا دعاكم لما يحييكم:» الأنفال - 24، و هذه الحياة هي التي يشير إليها قوله تعالى: «أ و من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها:» الأنعام - 122، و قال تعالى: «أ فمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب:» الرعد - 19، و قال تعالى: «قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا و من اتبعني و سبحان الله و ما أنا من المشركين:» يوسف - 108، و قال تعالى: «هل يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب:» الزمر - 9، و قال تعالى: «يعلمهم الكتاب و الحكمة و يزكيهم:» البقرة - 129، إلى غير ذلك، و القرآن مشحون بمدح العلم و الدعوة إليه و الحث به، و ناهيك فيه أنه يسمي العهد السابق على ظهور الإسلام عهد الجاهلية كما قيل.
فما أبعد من الإنصاف قول من يقول: إن الدين مبني على التقليد و الجهل مضاد للعلم و مباهت له، و هؤلاء القائلون أناس اشتغلوا بالعلوم الطبيعية و الاجتماعية فلم يجدوا فيها ما يثبت شيئا مما وراء الطبيعة، فظنوا عدم الإثبات إثباتا للعدم، و قد أخطئوا في ظنهم، و خبطوا في حكمهم، ثم نظروا إلى ما في أيدي أمثالهم من الناس المتهوسين من أمور يسمونه باسم الدين، و لا حقيقة لها غير الشرك، و الله بريء من المشركين و رسوله، ثم نظروا إلى الدعوة الدينية بالتعبد و الطاعة فحسبوها تقليدا و قد أخطئوا في حسبانهم، و الدين أجل شأنا من أن يدعو إلى الجهل و التقليد، و أمنع جانبا من أن يهدي إلى عمل لا علم معه، أو يرشد إلى قول بغير هدى و لا كتاب منير، و من أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه.
الاختلاف في نفس الدين
و بالجملة فهو تعالى يخبرنا أن الاختلاف في المعاش و أمور الحياة إنما رفع أول ما رفع بالدين، فلو كانت هناك قوانين غير دينية فهي مأخوذة بالتقليد من الدين.
ثم إنه تعالى يخبرنا أن الاختلاف نشأ بين النوع في نفس الدين و إنما أوجده حملة الدين ممن أوتي الكتاب المبين: من العلماء بكتاب الله بغيا بينهم و ظلما و عتوا، قال تعالى: «شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا و الذي أوحينا إليك و ما وصينا به إبراهيم و موسى و عيسى أن أقيموا الدين و لا تتفرقوا فيه، إلى أن قال، و ما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم و لو لا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم:» الشورى - 14، و قال تعالى: «و ما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا و لو لا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون:» يونس - 19، و الكلمة المشار إليها في الآيتين هو قوله تعالى: «و لكم في الأرض مستقر و متاع إلى حين:» الأعراف - 24 فالاختلاف في الدين مستند إلى البغي دون الفطرة، فإن الدين فطري و ما كان كذلك لا تضل فيه الخلقة و لا يتبدل فيه حكمها كما قال تعالى: «فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم:» الروم - 30 فهذه جمل ما بني عليه الكلام في هذه الآية الشريفة.
الإنسان بعد الدنيا
ثم إنه يخبرنا أن الإنسان سيرتحل من الدنيا التي فيه حياته الاجتماعية و ينزل دارا أخرى سماها البرزخ، ثم دارا أخرى سماها الآخرة غير أن حياته بعد هذه الدنيا حياة انفرادية، و معنى كون الحياة انفرادية، أنها لا ترتبط بالاجتماع التعاوني، و التشارك و التناصر، بل السلطنة هناك في جميع أحكام الحياة لوجود نفسه لا يؤثر فيه وجود غيره بالتعاون و التناصر أصلا، و لو كان هناك هذا النظام الطبيعي المشهود في المادة لم يكن بد عن حكومة التعاون و التشارك، لكن الإنسان خلفه وراء ظهره، و أقبل إلى ربه، و بطل عنه جميع علومه العملية، فلا يرى لزوم الاستخدام و التصرف و المدنية و الاجتماع التعاوني و لا سائر أحكامه التي يحكم بها في الدنيا، و ليس له إلا صحابة عمله و نتيجة حسناته و سيئاته، و لا يظهر له إلا حقيقة الأمر و يبدو له النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون، قال تعالى: «و نرثه ما يقول و يأتينا فردا:» مريم - 80، و قال تعالى: «و لقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة و تركتم ما خولناكم وراء ظهوركم و ما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم و ضل عنكم ما كنتم تزعمون:» الأنعام - 94، و قال تعالى: «هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت و ردوا إلى الله موليهم الحق و ضل عنهم ما كانوا يفترون:» يونس - 30، و قال تعالى: «ما لكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون:» الصافات - 26، و قال تعالى: «يوم تبدل الأرض غير الأرض و السموات و برزوا لله الواحد القهار:» إبراهيم - 48، و قال تعالى: «و أن ليس للإنسان إلا ما سعى و أن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى:» النجم - 41، إلى غير ذلك من الآيات، فهذه الآيات كما ترى تدل على أن الإنسان يبدل بعد الموت نحو حياته فلا يحيا حياة اجتماعية مبنية على التعاون و التناصر، و لا يستعمل ما أبدعه في هذه الحياة من العلوم العملية، و لا يجني إلا ثمرة عمله و نتيجة سعيه ظهر له ظهورا فيجزي به جزاء.
قوله تعالى: كان الناس أمة واحدة، الناس معروف و هو الأفراد المجتمعون من الإنسان، و الأمة هي الجماعة من الناس، و ربما يطلق على الواحد كما في قوله تعالى: «إن إبراهيم كان أمة قانتا لله:» النحل - 120، و ربما يطلق على زمان معتد به كقوله تعالى: «و ادكر بعد أمة:» يوسف - 45، أي بعد سنين و قوله تعالى: «و لئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة:» هود - 8، و ربما يطلق على الملة و الدين كما قال بعضهم في قوله تعالى: «إن هذه أمتكم أمة واحدة و أنا ربكم فاتقون:» المؤمنون - 52، و في قوله تعالى: «إن هذه أمتكم أمة واحدة و أنا ربكم فاعبدون:» الأنبياء - 92، و أصل الكلمة من أم يأم إذا قصد فأطلق لذلك على الجماعة لكن لا على كل جماعة، بل على جماعة كانت ذات مقصد واحد و بغية واحدة هي رابطة الوحدة بينها، و هو المصحح لإطلاقها على الواحد و على سائر معانيها إذا أطلقت.
و كيف كان فظاهر الآية يدل على أن هذا النوع قد مر عليهم في حياتهم زمان كانوا على الاتحاد و الاتفاق، و على السذاجة و البساطة، لا اختلاف بينهم بالمشاجرة و المدافعة في أمور الحياة، و لا اختلاف في المذاهب و الآراء، و الدليل على نفي الاختلاف قوله تعالى: «فبعث الله النبيين مبشرين و منذرين و أنزل معهم الكتاب ليحكم بينهم فيما اختلفوا فيه، فقد رتب بعثة الأنبياء و حكم الكتاب في مورد الاختلاف على كونهم أمة واحدة فالاختلاف في أمور الحياة ناش بعد الاتحاد و الوحدة، و الدليل على نفي الاختلاف الثاني قوله تعالى: و ما اختلف فيه إلا الذين أوتوه بغيا بينهم فالاختلاف في الدين إنما نشأ من قبل حملة الكتاب بعد إنزاله بالبغي.
و هذا هو الذي يساعد عليه الاعتبار، فإنا نشاهد النوع الإنساني لا يزال يرقى في العلم و الفكر، و يتقدم في طريق المعرفة و الثقافة، عاما بعد عام، و جيلا بعد جيل، و بذلك يستحكم أركان اجتماعه يوما بعد يوم، و يقوم على رفع دقائق الاحتياج، و المقاومة قبال مزاحمات الطبيعة، و الاستفادة من مزايا الحياة، و كلما رجعنا في ذلك القهقرى وجدناه أقل عرفانا برموز الحياة، و أسرار الطبيعة، و ينتهي بنا هذا السلوك إلى الإنسان الأولي الذي لا يوجد عنده إلا النزر القليل من المعرفة بشئون الحياة و حدود العيش، كأنهم ليس عندهم إلا البديهيات و يسير من النظريات الفكرية التي تهيىء لهم وسائل البقاء بأبسط ما يكون، كالتغذي بالنبات أو شيء من الصيد و الإيواء إلى الكهوف و الدفاع بالحجارة و الأخشاب و نحو ذلك، فهذا حال الإنسان في أقدم عهوده، و من المعلوم أن قوما حالهم هذا الحال لا يظهر فيهم الاختلاف ظهورا يعتد به، و لا يبدو فيهم الفساد بدوا مؤثرا، كالقطيع من الغنم لا هم لأفراده إلا الاهتداء لبعض ما اهتدى إليه بعض آخر، و التجمع في المسكن و المعلف و المشرب.
غير أن الإنسان لوجود قريحة الاستخدام فيه كما أشرنا إليه فيما مر لا يحبسه هذا الاجتماع القهري من حيث التعاون على رفع البعض حوائج البعض عن الاختلاف و التغالب و التغلب، و هو كل يوم يزداد علما و قوة على طرق الاستفادة، و يتنبه بمزايا جديدة، و يتيقظ لطرق دقيقة في الانتفاع، و فيهم الأقوياء و أولوا السطوة و أرباب القدرة، و فيهم الضعفاء و من في رتبتهم، و هو منشأ ظهور الاختلاف، الاختلاف الفطري الذي دعت إليه قريحة الاستخدام، كما دعت هذه القريحة بعينها إلى الاجتماع و المدنية.
و لا ضير في تزاحم حكمين فطريين، إذا كان فوقهما ثالث يحكم بينهما، و يعدل أمرهما، و يصلح شأنهما، و ذلك كالإنسان تتسابق قواه في أفعالها، و يؤدي ذلك إلى التزاحم، كما أن جاذبة التغذي تقضي بأكل ما لا تطيق هضمه الهاضمة و لا تسعه المعدة، و هناك عقل يعدل بينهما، و يقضي لكل بما يناسبه، و يقدر فعل كل واحدة من هذه القوى الفعالة بما لا يزاحم الأخرى في فعلها.
و التنافي بين حكمين فطريين فما نحن فيه من هذا القبيل، فسلوك فطرة الإنسان إلى المدنية ثم سلوكها إلى الاختلاف يؤديان إلى التنافي، و لكن الله يرفع التنافي برفع الاختلاف الموجود ببعث الأنبياء بالتبشير و الإنذار، و إنزال الكتاب الحاكم بين الناس فيما اختلفوا فيه.
و بهذا البيان يظهر فساد ما ذكره بعضهم: أن المراد بالآية أن الناس كانوا أمة واحدة على الهداية، لأن الاختلاف إنما ظهر بعد نزول الكتاب بغيا بينهم، و البغي من حملة الكتاب، و قد غفل هذا القائل عن أن الآية تثبت اختلافين اثنين لا اختلافا واحدا، و قد مر بيانه، و عن أن الناس لو كانوا على الهداية فإنها واحدة من غير اختلاف، فما هو الموجب بل ما هو المجوز لبعث الأنبياء و إنزال الكتاب و حملهم على البغي بالاختلاف، و إشاعة الفساد، و إثارة غرائز الكفر و الفجور و مهلكات الأخلاق مع استبطانها؟.
و يظهر به أيضا: فساد ما ذكره آخرون أن المراد بها أن الناس كانوا أمة واحدة على الضلالة، إذ لولاها لم يكن وجه لترتب قوله تعالى: فبعث الله النبيين «إلخ»، و قد غفل هذا القائل عن أن الله سبحانه يذكر أن هذا الضلال الذي ذكره و هو الذي أشار إليه بقوله سبحانه: فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، إنما نشأ عن سوء سريرة حملة الكتاب و علماء الدين بعد نزول الكتاب، و بيان آياته للناس، فلو كانوا على الضلالة قبل البعث و الإنزال و هي ضلالة الكفر و النفاق و الفجور و المعاصي فما المصحح لنسبة ذلك إلى حملة الكتاب و علماء الدين؟.
و يظهر به أيضا ما في قول آخرين إن المراد بالناس بنو إسرائيل حيث إن الله يذكر أنهم اختلفوا في الكتاب بغيا بينهم، قال تعالى: «فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم:» الجاثية - 16، و ذلك أنه تفسير من غير دليل، و مجرد اتصاف قوم بصفة لا يوجب انحصارها فيهم.
و أفسد من ذلك قول من قال: إن المراد بالناس في الآية هو آدم (عليه السلام)، و المعنى أن آدم (عليه السلام) كان أمة واحدة على الهداية ثم اختلف ذريته، فبعث الله النبيين «إلخ»، و الآية بجملها لا تطابق هذا القول لا كله و لا بعضه.
و يظهر به أيضا فساد قول بعضهم: إن كان في الآية منسلخ عن الدلالة على الزمان كما في قوله تعالى: «و كان الله عزيزا حكيما:» الفتح - 7، فهو دال على الثبوت، و المعنى: أن الناس أمة واحدة من حيث كونهم مدنيين طبعا فإن الإنسان مدني بالطبع لا يتم حياة الفرد الواحد منه وحده، لكثرة حوائجه الوجودية، و اتساع دائرة لوازم حياته، بحيث لا يتم له الكمال إلا بالاجتماع و التعاون بين الأفراد و المبادلة في المساعي، فيأخذ كل من نتائج عمله ما يستحقه من هذه النتيجة و يعطي الباقي غيره، و يأخذ بدله بقية ما يحتاج إليه و يستحقه في وجوده، فهذا حال الإنسان لا يستغني عن الاجتماع و التعاون وقتا من الأوقات، يدل عليه ما وصل إلينا من تاريخ هذا النوع الاجتماعي المدني و كونه اجتماعيا مدنيا لم يزل على ذلك فهو مقتضى فطرته و خلقته غير أن ذلك يؤدي إلى الاختلاف، و اختلال نظام الاجتماع، فشرع الله سبحانه بعنايته البالغة شرائع ترفع هذا الاختلاف، و بلغها إليهم ببعث النبيين مبشرين و منذرين، و إنزال الكتاب الحاكم معهم للحكم في موارد الاختلاف.
فمحصل المعنى أن الناس أمة واحدة مدنية بالطبع لا غنى لهم عن الاجتماع و هو يوجب الاختلاف فلذلك بعث الله الأنبياء و أنزل الكتاب.
و يرد عليه أولا: أنه أخذ المدنية طبعا أوليا للإنسان، و الاجتماع و الاشتراك في الحياة لازما ذاتيا لهذا النوع، و قد عرفت فيما مر أن الأمر ليس كذلك، بل أمر تصالحي اضطراري، و أن القرآن أيضا يدل على خلافه.
و ثانيا: أن تفريع بعث الأنبياء و إنزال الكتب على مجرد كون الإنسان مدنيا بالطبع غير مستقيم إلا بعد تقييد هذه المدنية بالطبع بكونها مؤدية إلى الاختلاف، و ظهور الفساد، فيحتاج الكلام إلى التقدير و هو خلاف الظاهر، و القائل مع ذلك لا يرضى بتقدير الاختلاف في الكلام.
و ثالثا: أنه مبني على أخذ الاختلاف الذي تذكره الآية و تتعرض به اختلافا واحدا، و الآية كالنص في كون الاختلاف اختلافين اثنين، حيث تقول: و أنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، فهو اختلاف سابق على الكتاب و المختلفون بهذا الاختلاف هم الناس، ثم تقول و ما اختلف فيه أي في الكتاب إلا الذين أوتوه أي علموا الكتاب و حملوه بغيا بينهم، و هذا الاختلاف لاحق بالكتاب متأخر عن نزوله، و المختلفون بهذا الاختلاف علماء الكتاب و حملته دون جميع الناس، فأحد الاختلافين غير الآخر: أحدهما اختلاف عن بغي و علم، و الآخر بخلافه.
قوله تعالى: فبعث الله النبيين مبشرين و منذرين «إلخ»، عبر تعالى بالبعث دون الإرسال و ما في معناه لأن هذه الوحدة المخبر عنها من حال الإنسان الأولي حال خمود و سكوت، و هو يناسب البعث الذي هو الإقامة عن نوم أو قطون و نحو ذلك، و هذه النكتة لعلها هي الموجبة للتعبير عن هؤلاء المبعوثين بالنبيين دون أن يعبر بالمرسلين أو الرسل، على أن البعث و إنزال الكتاب كما تقدم بيانه حقيقتهما بيان الحق للناس و تنبيههم بحقيقة أمر وجودهم و حياتهم، و إنبائهم أنهم مخلوقون لربهم، و هو الله الذي لا إله إلا هو، و أنهم سالكون كادحون إلى الله مبعوثون ليوم عظيم، واقفون في منزل من منازل السير، لا حقيقة له إلا اللعب و الغرور، فيجب أن يراعوا ذلك في هذه الحياة و أفعالها، و أن يجعلوا نصب أعينهم أنهم من أين، و في أين، و إلى أين، و هذا المعنى أنسب بلفظ النبي الذي معناه: من استقر عنده النبأ دون الرسول، و لذلك عبر بالنبيين، و في إسناد بعث النبيين إلى الله سبحانه دلالة على عصمة الأنبياء في تلقيهم الوحي و تبليغهم الرسالة إلى الناس و سيجيء زيادة توضيح لهذا في آخر البيان، و أما التبشير و الإنذار أي الوعد برحمة الله من رضوانه و الجنة لمن آمن و اتقى، و الوعيد بعذاب الله سبحانه من سخطه و النار لمن كذب و عصى فهما أمس مراتب الدعوة بحال الإنسان المتوسط الحال، و إن كان بعض الصالحين من عباده و أوليائه لا تتعلق نفوسهم بغير ربهم من ثواب أو عقاب.
قوله تعالى: و أنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، الكتاب فعال بمعنى المكتوب، و الكتاب بحسب المتعارف من إطلاقه و إن استلزم كتابه بالقلم لكن لكون العهود و الفرامين المفترضة إنما يبرم بالكتابة غالبا شاع إطلاقه على كل حكم مفروض واجب الاتباع أو كل بيان بل كل معنى لا يقبل النقض في إبرامه، و قد كثر استعماله بهذا المعنى في القرآن، و بهذا المعنى سمي القرآن كتابا و هو كلام إلهي، قال تعالى: «كتاب أنزلناه إليك مبارك:» ص - 29، و قال تعالى: «إن الصلوة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا:» النساء - 103، و في قوله تعالى فيما اختلفوا فيه، دلالة على أن المعنى: كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله «إلخ»، كما مر.
و اللام في الكتاب إما للجنس و إما للعهد الذهني و المراد به كتاب نوح (عليه السلام) لقوله تعالى: «شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا و الذي أوحينا إليك و ما وصينا به إبراهيم و موسى و عيسى:» الشورى - 13، فإن الآية في مقام الامتنان و تبين أن الشريعة النازلة على هذه الأمة جامعة لمتفرقات جميع الشرائع السابقة النازلة على الأنبياء السالفين مع ما يختص بوحيه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فالشريعة مختصة بهؤلاء الأنبياء العظام: نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
و لما كان قوله تعالى: و أنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه الآية يدل على أن الشرع إنما كان بالكتاب دلت الآيتان بالانضمام أولا: على أن لنوح (عليه السلام) كتابا متضمنا لشريعة، و أنه المراد بقوله تعالى: و أنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، إما وحده أو مع غيره من الكتب بناء على كون اللام للعهد أو الجنس.
و ثانيا: أن كتاب نوح أول كتاب سماوي متضمن للشريعة، إذ لو كان قبله كتاب لكان قبله شريعة حاكمة و لذكرها الله تعالى في قوله: شرع لكم الآية.
و ثالثا: أن هذا العهد الذي يشير تعالى إليه بقوله: كان الناس أمة واحدة الآية كان قبل بعثة نوح (عليه السلام) و قد حكم فيه كتابه (عليه السلام).
قوله تعالى: و ما اختلف فيه إلا الذين أوتوه بغيا بينهم، قد مر أن المراد به الاختلاف الواقع في نفس الدين من حملته، و حيث كان الدين من الفطرة كما يدل عليه قوله تعالى: «فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها:» الروم - 30، نسب الله سبحانه الاختلاف الواقع فيه إلى البغي.
و في قوله تعالى: إلا الذين أوتوه، دلالة على أن المراد بالجملة هو الإشارة إلى الأصل في ظهور الاختلاف الديني في الكتاب لا أن كل من انحرف عن الصراط المستقيم أو تدين بغير الدين يكون باغيا و إن كان ضالا عن الصراط السوي، فإن الله سبحانه لا يعذر الباغي، و قد عذر من اشتبه عليه الأمر و لم يجد حيلة و لم يهتد سبيلا، قال تعالى: «إنما السبيل على الذين يظلمون الناس و يبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم:» الشورى - 42، و قال تعالى: «و آخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا و آخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم - إلى أن قال -: و آخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم و إما يتوب عليهم و الله عليم حكيم:» التوبة - 106، و قال تعالى: «إلا المستضعفين من الرجال و النساء و الولدان لا يستطيعون حيلة و لا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم و كان الله عفوا غفورا:» النساء - 99.
على أن الفطرة لا تنافي الغفلة و الشبهة، و لكن تنافي التعمد و البغي، و لذلك خص البغي بالعلماء و من استبانت له الآيات الإلهية، قال تعالى: «و الذين كفروا و كذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون:» البقرة - 39، و الآيات في هذا المعنى كثيرة، و قد قيد الكفر في جميعها بتكذيب آيات الله ثم أوقع عليه الوعيد، و بالجملة فالمراد بالآية أن هذا الاختلاف ينتهي إلى بغي حملة الكتاب من بعد علم.
قوله تعالى: فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بيان لما اختلف فيه و هو الحق الذي كان الكتاب نزل بمصاحبته، كما دل عليه قوله تعالى: و أنزل معهم الكتاب بالحق، و عند ذلك عنت الهداية الإلهية بشأن الاختلافين معا: الاختلاف في شأن الحياة، و الاختلاف في الحق و المعارف الإلهية الذي كان عامله الأصلي بغي حملة الكتاب، و في تقييد الهداية بقوله تعالى: بإذنه دلالة على أن هداية الله تعالى لهؤلاء المؤمنين لم تكن إلزاما منهم، و إيجابا على الله تعالى أن يهديهم لإيمانهم، فإن الله سبحانه لا يحكم عليه حاكم، و لا يوجب عليه موجب إلا ما أوجبه على نفسه، بل كانت الهداية بإذنه تعالى و لو شاء لم يأذن و لم يهد، و على هذا فقوله تعالى: و الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم بمنزلة التعليل لقوله بإذنه، و المعنى إنما هداهم الله بإذنه لأن له أن يهديهم و ليس مضطرا موجبا على الهداية في مورد أحد، بل يهدي من يشاء، و قد شاء أن يهدي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم.
و قد تبين من الآية أولا: حد الدين و معرفه، و هو أنه نحو سلوك في الحياة الدنيا يتضمن صلاح الدنيا بما يوافق الكمال الأخروي، و الحياة الدائمة الحقيقية عند الله سبحانه، فلا بد في الشريعة من قوانين تتعرض لحال المعاش على قدر الاحتياج.
و ثانيا: أن الدين أول ما ظهر ظهر رافعا للاختلاف الناشىء عن الفطرة ثم استكمل رافعا للاختلاف الفطري و غير الفطري معا.
و ثالثا: أن الدين لا يزال يستكمل حتى يستوعب قوانينه جهات الاحتياج في الحياة، فإذا استوعبها ختم ختما فلا دين بعده، و بالعكس إذا كان دين من الأديان خاتما كان مستوعبا لرفع جميع جهات الاحتياج، قال تعالى: «ما كان محمد أبا أحد من رجالكم و لكن رسول الله و خاتم النبيين:» الأحزاب - 40، و قال تعالى: «و نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء:» النحل - 89، و قال تعالى: «و إنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه:» حم تنزيل - 42.
و رابعا: أن كل شريعة لاحقة أكمل من سابقتها.
و خامسا: السبب في بعث الأنبياء و إنزال الكتب، و بعبارة أخرى العلة في الدعوة الدينية، و هو أن الإنسان بحسب طبعه و فطرته سائر نحو الاختلاف كما أنه سالك نحو الاجتماع المدني، و إذا كانت الفطرة هي الهادية إلى الاختلاف لم تتمكن من رفع الاختلاف، و كيف يدفع شيء ما يجذبه إليه نفسه، فرفع الله سبحانه هذا الاختلاف بالنبوة و التشريع بهداية النوع إلى كماله اللائق بحالهم المصلح لشأنهم، و هذا الكمال كمال حقيقي داخل في الصنع و الإيجاد فما هو مقدمته كذلك، و قد قال تعالى: «الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى:» طه - 50، فبين أن من شأنه و أمره تعالى أن يهدي كل شيء إلى ما يتم به خلقه، و من تمام خلقه الإنسان أن يهتدي إلى كمال وجوده في الدنيا و الآخرة، و قد قال تعالى أيضا: «كلا نمد هؤلاء و هؤلاء من عطاء ربك و ما كان عطاء ربك محظورا:» الإسراء - 20، و هذه الآية تفيد أن شأنه تعالى هو الإمداد بالعطاء: يمد كل من يحتاج إلى إمداده في طريق حياته و وجوده، و يعطيه ما يستحقه، و أن عطاءه غير محظور و لا ممنوع من قبله تعالى إلا أن يمتنع ممتنع بسوء حظ نفسه، من قبل نفسه لا من قبله تعالى.
و من المعلوم أن الإنسان غير متمكن من تتميم هذه النقيصة من قبل نفسه فإن فطرته هي المؤدية إلى هذه النقيصة فكيف يقدر على تتميمها و تسوية طريق السعادة و الكمال في حياته الاجتماعية؟.
و إذا كانت الطبيعة الإنسانية هي المؤدية إلى هذا الاختلاف العائق للإنسان عن الوصول إلى كماله الحري به و هي قاصرة عن تدارك ما أدت إليه و إصلاح ما أفسدته، فالإصلاح لو كان يجب أن يكون من جهة غير جهة الطبيعة، و هي الجهة الإلهية التي هي النبوة بالوحي، و لذا عبر تعالى عن قيام الأنبياء بهذا الإصلاح و رفع الاختلاف بالبعث و لم ينسبه في القرآن كله إلا إلى نفسه مع أن قيام الأنبياء كسائر الأمور له ارتباطات بالمادة بالروابط الزمانية و المكانية.
فالنبوة حالة إلهية و إن شئت قل غيبية نسبتها إلى هذه الحالة العمومية من الإدراك و الفعل نسبة اليقظة إلى النوم بها يدرك الإنسان المعارف التي بها يرتفع الاختلاف و التناقض في حياة الإنسان، و هذا الإدراك و التلقي من الغيب هو المسمى في لسان القرآن بالوحي، و الحالة التي يتخذها الإنسان منه لنفسه بالنبوة.
و من هناك يظهر أن هذا أعني تأدية الفطرة إلى الاجتماع المدني من جهة و إلى الاختلاف من جهة أخرى، و عنايته تعالى بالهداية إلى تمام الخلقة مبدأ حجة على وجود النبوة، و بعبارة أخرى دليل النبوة العامة.
تقريره: أن نوع الإنسان مستخدم بالطبع، و هذا الاستخدام الفطري يؤديه إلى الاجتماع المدني و إلى الاختلاف و الفساد في جميع شئون حياته الذي يقضي التكوين و الإيجاد برفعه و لا يرتفع إلا بقوانين تصلح الحياة الاجتماعية برفع الاختلاف عنها، و هداية الإنسان إلى كماله و سعادته بأحد أمرين: إما بفطرته و إما بأمر وراءه لكن الفطرة غير كافية فإنها هي المؤدية إلى الاختلاف فكيف ترفعها؟ فوجب أن يكون بهداية من غير طريق الفطرة و الطبيعة، و هو التفهيم الإلهي غير الطبيعي المسمى بالنبوة و الوحي، و هذه الحجة مؤلفة من مقدمات مصرح بها في كتاب الله تعالى كما عرفت فيما تقدم، و كل واحدة من هذه المقدمات تجربية، بينتها التجربة للإنسان في تاريخ حياته و اجتماعاته المتنوعة التي ظهرت و انقرضت في طي القرون المتراكمة الماضية، إلى أقدم أعصار الحياة الإنسانية التي يذكرها التاريخ.
فلا الإنسان انصرف في حين من أحيان حياته عن حكم الاستخدام، و لا استخدامه لم يؤد إلى الاجتماع و قضى بحياة فردية، و لا اجتماعه المكون خلا عن الاختلاف، و لا الاختلاف ارتفع بغير قوانين اجتماعية، و لا أن فطرته و عقله الذي يعده عقلا سليما قدرت على وضع قوانين تقطع منابت الاختلاف و تقلع مادة الفساد، و ناهيك في ذلك: ما تشاهده من جريان الحوادث الاجتماعية، و ما هو نصب عينيك من انحطاط الأخلاق و فساد عالم الإنسانية، و الحروب المهلكة للحرث و النسل، و المقاتل المبيدة للملايين بعد الملايين من الناس، و سلطان التحكم و نفوذ الاستعباد في نفوس البشر و أعراضهم و أموالهم في هذا القرن الذي يسمى عصر المدنية و الرقى و الثقافة و العلم، فما ظنك بالقرون الخالية، أعصار الجهل و الظلمة؟.
و أما إن الصنع و الإيجاد يسوق كل موجود إلى كماله اللائق به فأمر جار في كل موجود بحسب التجربة و البحث، و كذا كون الخلقة و التكوين إذا اقتضى أثرا لم يقتض خلافه بعينه أمر مسلم تثبته التجربة و البحث، و أما إن التعليم و التربية الدينيين الصادرين من مصدر النبوة و الوحي يقدران على دفع هذا الاختلاف و الفساد فأمر يصدقه البحث و التجربة معا: أما البحث: فلأن الدين يدعو إلى حقائق المعارف و فواضل الأخلاق و محاسن الأفعال فصلاح العالم الإنساني مفروض فيه، و أما التجربة: فالإسلام أثبت ذلك في اليسير من الزمان الذي كان الحاكم فيه على الاجتماع بين المسلمين هو الدين، و أثبت ذلك بتربية أفراد من الإنسان صلحت نفوسهم، و أصلحوا نفوس غيرهم من الناس، على أن جهات الكمال و العروق النابضة في هيكل الاجتماع المدني اليوم التي تضمن حياة الحضارة و الرقي مرهونة التقدم الإسلامي و سريانه في العالم الدنيوي على ما يعطيه التجزية و التحليل من غير شك، و سنستوفي البحث عنه إن شاء الله في محل آخر أليق به.
و سادسا: أن الدين الذي هو خاتم الأديان يقضي بوقوف الاستكمال الإنساني، قضاء القرآن بختم النبوة و عدم نسخ الدين و ثبات الشريعة يستوجب أن الاستكمال الفردي و الاجتماعي للإنسان هو هذا المقدار الذي اعتبره القرآن في بيانه و تشريعه.
و هذا من ملاحم القرآن التي صدقها جريان تاريخ الإنسان منذ نزول القرآن إلى يومنا هذا في زمان يقارب أربعة عشر قرنا تقدم فيها النوع في الجهات الطبيعي من اجتماعه تقدما باهرا، و قطع بعدا شاسعا غير أنه وقف من جهة معارفه الحقيقية، و أخلاقه الفاضلة موقفه الذي كان عليه، و لم يتقدم حتى قدما واحدا، أو رجع أقداما خلفه القهقرى، فلم يتكامل في مجموع كماله من حيث المجموع أعني الكمال الروحي و الجسمي معا.
و قد اشتبه الأمر على من يقول: إن جعل القوانين العامة لما كان لصلاح حال البشر و إصلاح شأنه وجب أن تتبدل بتبدل الاجتماعيات في نفسها و ارتقائها و صعودها مدارج الكمال، و لا شك أن النسبة بيننا و بين عصر نزول القرآن، و تشريع قوانين الإسلام أعظم بكثير من النسبة بين ذلك العصر و عصر بعثة عيسى (عليه السلام) و موسى (عليه السلام) فكان تفاوت النسبة بين هذا العصر و عصر النبي موجبا لنسخ شرائع الإسلام و وضع قوانين أخر قابلة الانطباق على مقتضيات العصر الحاضر.
و الجواب عنه: أن الدين كما مر لم يعتبر في تشريعه مجرد الكمال المادي الطبيعي للإنسان، بل اعتبر حقيقة الوجود الإنساني، و بنى أساسه على الكمال الروحي و الجسمي معا، و ابتغى السعادة المادية و المعنوية جميعا، و لازم ذلك أن يعتبر فيه حال الفرد الاجتماعي المتكامل بالتكامل الديني دون الفرد الاجتماعي المتكامل بالصنعة و السياسة، و قد اختلط الأمر على هؤلاء الباحثين فإنهم لولوعهم في الأبحاث الاجتماعية المادية و المادة متحولة متكاملة كالاجتماع المبني عليها حسبوا أن الاجتماع الذي اعتبره الدين نظير الاجتماع الذي اعتبروه اجتماع مادي جسماني، فحكموا عليه بالتغير و النسخ حسب تحول الاجتماع المادي، و قد عرفت أن الدين لا يبني تشريعه على أساس الجسم فقط، بل الجسم و الروح جميعا، و على هذا يجب أن يفرض فرد ديني أو اجتماع ديني جامع للتربية الدينية و الحياة المادية التي سمحت به دنيا اليوم ثم لينظر هل يوجد عنده شيء من النقص المفتقر إلى التتميم، و الوهن المحتاج إلى التقوية؟.
و سابعا: أن الأنبياء (عليهم السلام) معصومون عن الخطإ.
كلام في عصمة الأنبياء
توضيح هذه النتيجة: أن العصمة على ثلاثة أقسام: العصمة عن الخطإ في تلقي الوحي، و العصمة عن الخطإ في التبليغ و الرسالة، و العصمة عن المعصية و هي ما فيه هتك حرمة العبودية و مخالفة مولوية، و يرجع بالآخرة إلى قول أو فعل ينافي العبودية منافاة ما، و نعني بالعصمة وجود أمر في الإنسان المعصوم يصونه عن الوقوع فيما لا يجوز من الخطإ أو المعصية.
و أما الخطأ في غير باب المعصية و تلقي الوحي و التبليغ، و بعبارة أخرى في غير باب أخذ الوحي و تبليغه و العمل به كالخطإ في الأمور الخارجية نظير الأغلاط الواقعة للإنسان في الحواس و إدراكاتها أو الاعتباريات من العلوم، و نظير الخطإ في تشخيص الأمور التكوينية من حيث الصلاح و الفساد و النفع و الضرر و نحوها فالكلام فيها خارج عن هذا المبحث.
و كيف كان فالقرآن يدل على عصمتهم (عليهم السلام) في جميع الجهات الثلاث: أما العصمة عن الخطإ في تلقي الوحي و تبليغ الرسالة: فيدل عليه قوله تعالى في الآية «فبعث الله النبيين مبشرين و منذرين و أنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه و ما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه» فإنه ظاهر في أن الله سبحانه إنما بعثهم بالتبشير و الإنذار و إنزال الكتاب و هذا هو الوحي ليبينوا للناس الحق في الاعتقاد و الحق في العمل، و بعبارة أخرى لهداية الناس إلى حق الاعتقاد و حق العمل، و هذا هو غرضه سبحانه في بعثهم، و قد قال تعالى: «لا يضل ربي و لا ينسى:» طه - 52، فبين أنه لا يضل في فعله و لا يخطىء في شأنه فإذا أراد شيئا فإنما يريده من طريقه الموصل إليه من غير خطإ، و إذا سلك بفعل إلى غاية فلا يضل في سلوكه، و كيف لا و بيده الخلق و الأمر و له الملك و الحكم، و قد بعث الأنبياء بالوحي إليهم و تفهيمهم معارف الدين و لا بد أن يكون، و بالرسالة لتبليغها للناس و لا بد أن يكون! و قال تعالى أيضا: «إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا:» الطلاق - 3، و قال أيضا: «و الله غالب على أمره:» يوسف - 21.
و يدل على العصمة عن الخطإ أيضا قوله تعالى: «عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه و من خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم و أحاط بما لديهم و أحصى كل شيء عددا:» الجن - 28، فظاهره أنه سبحانه يختص رسله بالوحي فيظهرهم و يؤيدهم على الغيب بمراقبة ما بين أيديهم و ما خلفهم، و الإحاطة بما لديهم لحفظ الوحي عن الزوال و التغير بتغيير الشياطين و كل مغير غيرهم، ليتحقق إبلاغهم رسالات ربهم، و نظيره قوله تعالى حكاية عن قول ملائكة الوحي «و ما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا و ما خلفنا و ما بين ذلك و ما كان ربك نسيا:» مريم - 64، دلت الآيات على أن الوحي من حين شروعه في النزول إلى بلوغه النبي إلى تبليغه للناس محفوظ مصون عن تغيير أي مغير يغيره.
و هذان الوجهان من الاستدلال و إن كانا ناهضين على عصمة الأنبياء (عليهم السلام) في تلقي الوحي و تبليغ الرسالة فقط دون العصمة عن المعصية في العمل على ما قررنا، لكن يمكن تتميم دلالتهما على العصمة من المعصية أيضا بأن الفعل دال كالقول عند العقلاء فالفاعل لفعل يدل بفعله على أنه يراه حسنا جائزا كما لو قال: إن الفعل الفلاني حسن جائز فلو تحققت معصية من النبي و هو يأمر بخلافها لكان ذلك تناقضا منه فإن فعله يناقض حينئذ قوله فيكون حينئذ مبلغا لكلا المتناقضين و ليس تبليغ المتناقضين بتبليغ للحق فإن المخبر بالمتناقضين لم يخبر بالحق لكون كل منهما مبطلا للآخر، فعصمة النبي في تبليغ رسالته لا تتم إلا مع عصمته عن المعصية و صونه عن المخالفة كما لا يخفى.
و يدل على عصمتهم مطلقا قوله تعالى: «أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده:» الأنعام - 90، فجميعهم (عليهم السلام) كتب عليهم الهداية، و قد قال تعالى: «و من يضلل الله فما له من هاد و من يهدي الله فما له من مضل:» الزمر - 37.
و قال تعالى: «من يهد الله فهو المهتد:» الكهف - 17، فنفى عن المهتدين بهدايته كل مضل يؤثر فيهم بضلال، فلا يوجد فيهم ضلال، و كل معصية ضلال كما يشير إليه قوله تعالى: «أ لم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين و أن اعبدوني هذا صراط مستقيم و لقد أضل منكم جبلا كثيرا:» يس - 62، فعد كل معصية ضلالا حاصلا بإضلال الشيطان بعد ما عدها عبادة للشيطان فإثبات هدايته تعالى في حق الأنبياء (عليهم السلام) ثم نفى الضلال عمن اهتدى بهداه ثم عد كل معصية ضلالا تبرئة منه تعالى لساحة أنبيائه عن صدور المعصية منهم و كذا عن وقوع الخطإ في فهمهم الوحي و إبلاغهم إياه.
و يدل عليها أيضا قوله تعالى: و من يطع الله و الرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين و حسن أولئك رفيقا:» النساء - 68، و قال أيضا: «اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم و لا الضالين:» الحمد - 7، فوصف هؤلاء الذين أنعم عليهم من النبيين بأنهم ليسوا بضالين، و لو صدر عنهم معصية لكانوا بذلك ضالين و كذا لو صدر عنهم خطأ في الفهم أو التبليغ، و يؤيد هذا المعنى قوله تعالى فيما يصف به الأنبياء: «أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم و ممن حملنا مع نوح و من ذرية إبراهيم و ممن هدينا و اجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا و بكيا فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة و اتبعوا الشهوات و سوف يلقون غيا:» مريم - 59، فجمع في الأنبياء أولا الخصلتين: أعني الإنعام و الهداية حيث أتى بمن البيانية في قوله و ممن هدينا و اجتبينا بعد قوله: أنعم الله عليهم، و وصفهم بما فيه غاية التذلل في العبودية، ثم وصف الخلف بما وصف من أوصاف الذم، و الفريق الثاني غير الأول لأن الفريق الأول رجال ممدوحون مشكورون دون الثاني، و إذ وصف الفريق الثاني و عرفهم بأنهم اتبعوا الشهوات و سوف يلقون غيا فالفريق الأول و هم الأنبياء ما كانوا يتبعون الشهوات و لا يلحقهم غي، و من البديهي أن من كان هذا شأنه لم يجز صدور المعصية عنه حتى أنهم لو كانوا قبل نبوتهم ممن يتبع الشهوات لكانوا بذلك ممن يلحقهم الغي لمكان الإطلاق في قوله: أضاعوا الصلاة و اتبعوا الشهوات و سوف يلقون غيا.
و هذا الوجه قريب من قول من استدل على عصمة الأنبياء من طريق العقل بأن إرسال الرسل و إجراء المعجزات على أيديهم تصديق لقولهم.
فلا يصدر عنهم كذب و كذا تصديق لأهليتهم للتبليغ، و العقل لا يعد إنسانا يصدر منه المعاصي و الأفعال المنافية لمرام و مقصد كيف كان أهلا للدعوة إلى ذلك المرام فإجراء المعجزات على أيديهم يتضمن تصديق عدم خطائهم في تلقي الوحي و في تبليغ الرسالة و في امتثالهم للتكاليف المتوجه إليهم بالطاعة.
و لا يرد عليه: أن الناس و هم عقلاء يتسببون في أنواع تبليغاتهم و أقسام أغراضهم الاجتماعية بالتبليغ ممن لا يخلو عن بعض القصور و التقصير في التبليغ، فإن ذلك منهم لأحد أمرين لا يجوز فيما نحن فيه، إما لمكان المسامحة منهم في اليسير من القصور و التقصير، و إما لأن مقصودهم هو البلوغ إلى ما تيسر من الأمر المطلوب، و القبض على اليسير و الغض عن الكثير و شيء من الأمرين لا يليق بساحته تعالى.
و لا يرد عليه أيضا: ظاهر قوله تعالى: «فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين و لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون:» التوبة - 123، فإن الآية و إن كانت في حق العامة من المسلمين ممن ليس بمعصوم لكنه أذن لهم في تبليغ ما تعلموا من الدين و تفقهوا فيه، لا تصديق لهم فيما أنذروا به و جعل حجية لقولهم على الناس و المحذور إنما هو في الثاني دون الأول.
و مما يدل على عصمتهم (عليهم السلام) قوله تعالى: «و ما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله:» النساء - 64، حيث جعل كون الرسول مطاعا غاية للإرسال، و قصر الغاية فيه، و ذلك يستدعي بالملازمة البينة تعلق إرادته تعالى بكل ما يطاع فيه الرسول و هو قوله أو فعله لأن كلا منهما وسيلة معمولة متداولة في التبليغ، فلو تحقق من الرسول خطأ في فهم الوحي أو في التبليغ كان ذلك إرادة منه تعالى للباطل و الله سبحانه لا يريد إلا الحق.
و كذا لو صدر عن الرسول معصية قولا أو فعلا و المعصية مبغوضة منهي عنها لكان بعينه متعلق إرادته تعالى فيكون بعينه طاعة محبوبة فيكون تعالى مريدا غير مريد، آمرا و ناهيا، محبا و مبغضا بالنسبة إلى فعل واحد بعينه تعالى عن تناقض الصفات و الأفعال علوا كبيرا و هو باطل و إن قلنا بجواز تكليف ما لا يطاق على ما قال به بعضهم، فإن تكليف ما لا يطاق تكليف بالمحال و ما نحن فيه تكليف نفسه محال لأنه تكليف و لا تكليف و إرادة و لا إرادة و حب و لا حب و مدح و ذم بالنسبة إلى فعل واحد!.
و مما يدل على ذلك أيضا قوله تعالى: «رسلا مبشرين و منذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل:» النساء - 165، فإن الآية ظاهرة في أن الله سبحانه يريد قطع عذر الناس في ما فيه المخالفة و المعصية و أن لا قاطع للعذر إلا الرسل (عليهم السلام)، و من المعلوم أن قطع الرسل عذر الناس و رفعهم لحجتهم إنما يصح إذا لم يتحقق في ناحيتهم ما لا يوافق إرادة الله و رضاه: من قول أو فعل، و خطإ أو معصية و إلا كان للناس أن يتمسكوا به و يحتجوا على ربهم سبحانه و هو نقض لغرضه تعالى.
فإن قلت: الذي يدل عليه ما مر من الآيات الكريمة هو أن الأنبياء (عليهم السلام) لا يقع منهم خطأ و لا يصدر عنهم معصية و ليس ذلك من العصمة في شيء فإن العصمة على ما ذكره القوم قوة تمنع الإنسان عن الوقوع في الخطإ، و تردعه عن فعل المعصية و اقتراف الخطيئة، و ليست القوة مجرد صدور الفعل أو عدم صدوره و إنما هي مبدأ نفساني تصدر عنه الفعل كما تصدر الأفعال عن الملكات النفسانية.
قلت: نعم لكن الذي يحتاج إليه في الأبحاث السابقة هو عدم تحقق الخطإ و المعصية من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و لا يضر في ذلك عدم ثبوت قوة تصدر عنها الفعل صوابا أو طاعة و هو ظاهر.
و مع ذلك يمكن الاستدلال على كون العصمة مستندة إلى قوة رادعة بما مر في البحث عن الإعجاز من دلالة قوله تعالى: «إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا:» الطلاق - 3، و كذا قوله تعالى: «إن ربي على صراط مستقيم:» هود - 56، على أن كلا من الحوادث يحتاج إلى مبدإ يصدر عنه و سبب يتحقق به، فهذه الأفعال الصادرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على وتيرة واحدة صوابا و طاعة تنتهي إلى سبب مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و في نفسه و هي القوة الرادعة و توضيحه: أن أفعال النبي المفروض صدورها طاعة أفعال اختيارية من نوع الأفعال الاختيارية الصادرة عنا التي بعضها طاعة و بعضها معصية، و لا شك أن الفعل الاختياري إنما هو اختياري بصدوره عن العلم و المشية، و إنما يختلف الفعل طاعة و معصية باختلاف الصورة العلمية التي يصدر عنها، فإن كان المقصود هو الجري على العبودية بامتثال الأمر مثلا تحققت الطاعة، و إن كان المطلوب - أعني الصورة العلمية التي يضاف إليها المشية - اتباع الهوى و اقتراف ما نهى الله عنه تحققت المعصية، فاختلاف أفعالنا طاعة و معصية لاختلاف علمنا الذي يصدر عنه الفعل، و لو دام أحد العلمين أعني الحكم بوجوب الجري على العبودية و امتثال الأمر الإلهي لما صدر إلا الطاعة، و لو دام العلم الآخر الصادر عنه المعصية و العياذ بالله لم يتحقق إلا المعصية، و على هذا فصدور الأفعال عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بوصف الطاعة دائما ليس إلا لأن العلم الذي يصدر عنه فعله بالمشية صورة علمية صالحة غير متغيرة، و هو الإذعان بوجوب العبودية دائما، و من المعلوم أن الصورة العلمية و الهيئة النفسانية الراسخة غير الزائلة هي الملكة النفسانية كملكة العفة و الشجاعة و العدالة و نحوها، ففي النبي ملكة نفسانية يصدر عنها أفعاله على الطاعة و الانقياد و هي القوة الرادعة عن المعصية.
و من جهة أخرى النبي لا يخطىء في تلقي الوحي و لا في تبليغ الرسالة ففيه هيئة نفسانية لا تخطىء في تلقي المعارف و تبليغها و لا تعصي في العمل و لو فرضنا أن هذه الأفعال و هي على وتيرة واحدة ليس فيها إلا الصواب و الطاعة تحققت منه من غير توسط سبب من الأسباب يكون معه، و لا انضمام من شيء إلى نفس النبي كان معنى ذلك أن تصدر أفعاله الاختيارية على تلك الصفة بإرادة من الله سبحانه من غير دخالة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيه، و لازم ذلك إبطال علم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و إرادته في تأثيرها في أفعاله و في ذلك خروج الأفعال الاختيارية عن كونها اختيارية، و هو ينافي افتراض كونه فردا من أفراد الإنسان الفاعل بالعلم و الإرادة، فالعصمة من الله سبحانه إنما هي بإيجاد سبب في الإنسان النبي يصدر عنه أفعاله الاختيارية صوابا و طاعة و هو نوع من العلم الراسخ و هو الملكة كما مر. كلام في النبوة
و الله سبحانه بعد ما ذكر هذه الحقيقة و هي وصف إرشاد الناس بالوحي في كلامه كثيرا عبر عن رجالها بتعبيرين مختلفين فيه تقسيمهم إلى قسمين أو كالتقسيم: و هما الرسول و النبي، قال تعالى: «و جيء بالنبيين و الشهداء:» الزمر - 69، و قال تعالى: «يوم يجمع الله الرسل ما ذا أجبتم:» المائدة - 109، و معنى الرسول حامل الرسالة، و معنى النبي حامل النبإ، فللرسول شرف الوساطة بين الله سبحانه و بين خلقه و للنبي شرف العلم بالله و بما عنده.
و قد قيل إن الفرق بين النبي و الرسول بالعموم و الخصوص المطلق فالرسول هو الذي يبعث فيؤمر بالتبليغ و يحمل الرسالة، و النبي هو الذي يبعث سواء أمر بالتبليغ أم لم يؤمر.
لكن هذا الفرق لا يؤيده كلامه تعالى كقوله تعالى: «و اذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا و كان رسولا نبيا:» مريم - 51، و الآية في مقام المدح و التعظيم و لا يناسب هذا المقام التدرج من الخاص إلى العام كما لا يخفى.
و كذا قوله تعالى: «و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبي:» الحج - 51، حيث جمع في الكلام بين الرسول و النبي ثم جعل كلا منهما مرسلا لكن قوله تعالى: «و وضع الكتاب و جيء بالنبيين و الشهداء:» الزمر - 69، و كذا قوله تعالى: «و لكن رسول الله و خاتم النبيين:» الأحزاب - 40، و كذا ما في الآية المبحوث عنها من قوله تعالى: «فبعث الله النبيين مبشرين و منذرين» إلى غير ذلك من الآيات يعطي ظاهرها أن كل مبعوث من الله بالإرسال إلى الناس نبي و لا ينافي ذلك ما مر من قوله تعالى: و كان رسولا نبيا الآية، فإن اللفظين قصد بهما معناهما من غير أن يصيرا اسمين مهجوري المعنى فالمعنى و كان رسولا خبيرا بآيات الله و معارفه، و كذا قوله تعالى: «و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبي الآية لإمكان أن يقال: إن النبي و الرسول كليهما مرسلان إلى الناس، غير أن النبي بعث لينبىء الناس بما عنده من نبإ الغيب لكونه خبيرا بما عند الله، و الرسول هو المرسل برسالة خاصة زائدة على أصل نبإ النبوة كما يشعر به أمثال قوله تعالى: «و لكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالحق:» يونس - 47، و قوله تعالى: «و ما كنا معذبين حتى نبعث رسولا:» الإسراء - 15، و على هذا فالنبي هو الذي يبين للناس صلاح معاشهم و معادهم من أصول الدين و فروعه على ما اقتضته عناية الله من هداية الناس إلى سعادتهم، و الرسول هو الحامل لرسالة خاصة مشتملة على إتمام حجة يستتبع مخالفته هلاكه أو عذابا أو نحو ذلك قال تعالى: «لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل:» النساء - 165، و لا يظهر من كلامه تعالى في الفرق بينهما أزيد مما يفيده لفظاهما بحسب المفهوم، و لازمه هو الذي أشرنا إليه من أن للرسول شرف الوساطة بين الله تعالى و بين عباده و للنبي شرف العلم بالله و بما عنده و سيأتي ما روي عن أئمة أهل البيت «(عليهم السلام)» من الفرق بينهما.
ثم إن القرآن صريح في أن الأنبياء كثيرون و إن الله سبحانه لم يقصص الجميع في كتابه، قال تعالى: «و لقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك و منهم من لم نقصص عليك:» المؤمن - 78، إلى غير ذلك و الذين قصهم الله تعالى في كتابه بالاسم بضعة و عشرون نبيا و هم: آدم، و نوح، و إدريس، و هود، و صالح، و إبراهيم، و لوط، و إسماعيل، و اليسع، و ذو الكفل، و إلياس، و يونس، و إسحاق، و يعقوب، و يوسف، و شعيب، و موسى، و هارون، و داود، و سليمان، و أيوب، و زكريا، و يحيى، و إسماعيل صادق الوعد، و عيسى، و محمد صلى الله عليهم أجمعين.
و هناك عدة لم يذكروا بأسمائهم بل بالتوصيف و الكناية، قال سبحانه: أ لم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا:» البقرة - 246 و قال تعالى: «أو كالذي مر على قرية و هي خاوية على عروشها:» البقرة - 259، و قال تعالى: «إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث:» يس - 14، و قال تعالى: «فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه من لدنا علما:» الكهف - 65، و قال تعالى: «و الأسباط:» البقرة - 136، و هناك من لم يتضح كونه نبيا كفتى موسى في قوله تعالى: «و إذ قال موسى لفتاه:» الكهف - 60، و مثل ذي القرنين و عمران أبي مريم و عزير من المصرح بأسمائهم.
و بالجملة لم يذكر في القرآن لهم عدد يقفون عنده و الذي يشتمل من الروايات على بيان عدتهم آحاد مختلفة المتون و أشهرها رواية أبي ذر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أن الأنبياء مائة و أربعة و عشرون ألف نبي، و المرسلون منهم ثلاثمائة و ثلاثة عشر نبيا.
و اعلم: أن سادات الأنبياء هم أولوا العزم منهم و هم: نوح، و إبراهيم، و موسى و عيسى، و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال تعالى: «فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل:» الأحقاف - 35، و سيجيء أن معنى العزم فيهم الثبات على العهد الأول المأخوذ منهم و عدم نسيانه، قال تعالى: «و إذ أخذنا من النبيين ميثاقهم و منك و من نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و أخذنا منهم ميثاقا غليظا:» الأحزاب - 7، و قال تعالى: «و لقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي و لم نجد له عزما:» طه - 115.
و كل واحد من هؤلاء الخمسة صاحب شرع و كتاب، قال تعالى: «شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا و الذي أوحينا إليك و ما وصينا به إبراهيم و موسى و عيسى:» الشورى - 13، و قال تعالى: «إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم و موسى:» الأعلى - 19، و قال تعالى: «إنا أنزلنا التوراة فيها هدى يحكم بها النبيون، إلى أن قال: «و قفينا على آثارهم بعيسى بن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة و آتيناه الإنجيل فيه هدى و نور - إلى أن قال - و أنزلنا إليك الكتاب مصدقا لما بين يديه من الكتاب و مهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله و لا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة و منهاجا و لو شاء الله لجعلكم أمة واحدة و لكن ليبلوكم فيما آتاكم:» المائدة - 48.
و الآيات تبين أن لهم شرائع و أن لإبراهيم و موسى و عيسى و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كتبا، و أما كتاب نوح فقد عرفت أن الآية أعني قوله تعالى: كان الناس أمة واحدة «إلخ»، بانضمامه إلى قوله تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا الآية تدل عليه، و هذا الذي ذكرناه لا ينافي نزول الكتاب على داود (عليه السلام)، قال تعالى: «و آتينا داود زبورا:» النساء - 163، و لا ما في الروايات من نسبة كتب إلى آدم، و شيث، و إدريس، فإنها كتب لا تشتمل على الأحكام و الشرائع.
و اعلم أن من لوازم النبوة الوحي و هو نوع تكليم إلهي تتوقف عليه النبوة قال تعالى: «إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح و النبيين من بعده:» النساء - 163، و سيجيء استيفاء البحث عن معناه في سورة الشورى إن شاء الله.
بحث روائي
في المجمع، عن الباقر (عليه السلام) أنه قال: كان الناس قبل نوح أمة واحدة على فطرة الله لا مهتدين و لا ضالين فبعث الله النبيين.
و في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام) في الآية قال: و كان ذلك قبل نوح فقيل: فعلى هدى كانوا؟ قال بل كانوا ضلالا، و ذلك أنه لما انقرض آدم و صالح ذريته، و بقي شيث وصيه لا يقدر على إظهار دين الله الذي كان عليه آدم و صالح ذريته و ذلك أن قابيل كان يواعده بالقتل كما قتل أخاه هابيل، فصار فيهم بالتقية و الكتمان فازدادوا كل يوم ضلالة حتى لم يبق على الأرض معهم إلا من هو سلف، و لحق الوصي بجزيرة من البحر ليعبد الله فبدا لله تبارك و تعالى أن يبعث الرسل، و لو سئل هؤلاء الجهال لقالوا قد فرغ من الأمر، و كذبوا، إنما هو شيء يحكم الله في كل عام ثم قرأ: فيها يفرق كل أمر حكيم، فيحكم الله تبارك و تعالى: ما يكون في تلك السنة من شدة أو رخاء أو مطر أو غير ذلك، قلت أ فضلالا كانوا قبل النبيين أم على هدى؟ قال: لم يكونوا على هدى، كانوا على فطرة الله التي فطرهم عليها، لا تبديل لخلق الله، و لم يكونوا ليهتدوا حتى يهديهم الله، أ ما تسمع بقول إبراهيم: لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين أي ناسيا للميثاق.
أقول: قوله: لم يكونوا على هدى كانوا على فطرة الله، يفسر معنى كونهم ضلالا المذكور في أول الحديث، و أنهم إنما خلوا عن الهداية التفصيلية إلى المعارف الإلهية، و أما الهداية الإجمالية فهي تجامع الضلال بمعنى الجهل بالتفاصيل كما يشير إليه قوله (عليه السلام) في رواية المجمع، المنقولة آنفا: على فطرة الله لا مهتدين و لا ضلالا.
و قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): أي ناسيا للميثاق، تفسير للضلال فالهداية هي ذكر الميثاق حقيقة كما في الكمل من المؤمنين أو الجري على حال من هو ذاكر للميثاق و إن لم يكن ذاكرا له حقيقة و هو حال سائر المؤمنين و لا يخلو إطلاق الهداية عليه من عناية.
و في التوحيد، عن هشام بن الحكم قال: سأل الزنديق الذي أتى أبا عبد الله فقال: من أين أثبت أنبياء و رسلا؟ قال أبو عبد الله (عليه السلام): إنا لما أثبتنا: أن لنا خالقا صانعا متعاليا عنا و عن جميع ما خلق، و كان ذلك الصانع حكيما لم يجز أن يشاهده خلقه، و لا يلامسوه، و لا يباشرهم و لا يباشروه و يحاجهم و يحاجوه، فثبت أن له سفراء في خلقه يدلونهم على مصالحهم و منافعهم و ما فيه بقاؤهم، و في تركه فناؤهم، فثبت الآمرون الناهون عن الحكيم العليم في خلقه، و ثبت عند ذلك أن له معبرين و هم الأنبياء و صفوته من خلقه، حكماء مؤدبون بالحكمة مبعوثين بها، غير مشاركين للناس في أحوالهم، على مشاركتهم لهم في الخلق و التركيب، مؤيدين من عند الحكيم العليم بالحكمة و الدلائل و البراهين و الشواهد، من إحياء الموتى، و إبراء الأكمه و الأبرص فلا يخلو أرض الله من حجة يكون معه علم يدل على صدق مقال الرسول و وجوب عدالته.
أقول: و الحديث كما ترى مشتمل على حجج ثلاث في مسائل ثلاث من النبوة.
إحداها: الحجة على النبوة العامة و بالتأمل فيما ذكره (صلى الله عليه وآله وسلم) تجد أنه منطبق على ما استفدنا من قوله تعالى: كان الناس أمة واحدة الآية.
و ثانيتها: الحجة على لزوم تأييد النبي بالمعجزة، و ما ذكره (عليه السلام) منطبق على ما ذكرناه في البحث عن الإعجاز في بيان قوله تعالى: «و إن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله:» البقرة - 23.
و ثالثتها: مسألة عدم خلو الأرض عن الحجة و سيأتي بيانه إن شاء الله.
و في المعاني، و الخصال، عن عتبة الليثي عن أبي ذر رحمه الله قال: قلت يا رسول الله كم النبيون؟ قال: مائة و أربعة و عشرون ألف نبي، قلت: كم المرسلون منهم؟ قال ثلاثمائة و ثلاثة عشر جما غفيرا، قلت من كان أول الأنبياء؟ قال: آدم، قلت: و كان من الأنبياء مرسلا؟ قال: نعم خلقه الله بيده و نفخ فيه من روحه، ثم قال يا أبا ذر أربعة من الأنبياء سريانيون: آدم و شيث، و أخنوخ و هو إدريس و هو أول من خط بالقلم، و نوح، و أربعة من العرب: هود، و صالح، و شعيب، و نبيك محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، و أول نبي من بني إسرائيل موسى و آخرهم عيسى و ستمائة نبي، قلت: يا رسول الله! كم أنزل الله تعالى من كتاب؟ قال: مائة كتاب و أربعة كتب، أنزل الله على شيث خمسين صحيفة و على إدريس ثلاثين صحيفة، و على إبراهيم عشرين صحيفة، و أنزل التوراة، و الإنجيل، و الزبور، و الفرقان.
أقول: و الرواية و خاصة صدرها المتعرض لعدد الأنبياء و المرسلين من المشهورات روتها الخاصة و العامة في كتبهم، و روى هذا المعنى الصدوق في الخصال، و الأمالي، عن الرضا عن آبائه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و عن زيد بن علي عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) و رواه ابن قولويه في كامل الزيارة، و السيد في الإقبال، عن السجاد (عليه السلام)، و في البصائر، عن الباقر (عليه السلام).
و في الكافي، عن الباقر (عليه السلام): في قوله تعالى: و كان رسولا نبيا الآية قال: النبي الذي يرى في منامه و يسمع الصوت و لا يعاين الملك، و الرسول الذي يسمع الصوت و لا يرى في المنام و يعاين.
أقول: و في هذا المعنى روايات أخر، و من الممكن أن يستفاد ذلك من مثل قوله تعالى: «فأرسل إلى هارون:» الشعراء - 13، و ليس معناها أن معنى الرسول هو المرسل إليه ملك الوحي بل المقصود أن النبوة و الرسالة مقامان خاصة أحدهما الرؤيا و خاصة الآخر مشاهدة ملك الوحي، و ربما اجتمع المقامان في واحد فاجتمعت الخاصتان، و ربما كانت نبوة من غير رسالة، فيكون الرسالة أخص من النبوة مصداقا لا مفهوما كما يصرح به الحديث السابق عن أبي ذر حيث يقول: قلت: كم المرسلون منهم؟ فقد تبين أن كل رسول نبي و لا عكس.
و بذلك يظهر الجواب عما اعترضه بعضهم على دلالة قوله تعالى: «و لكن رسول الله و خاتم النبيين:» الأحزاب - 40، إنه إنما يدل على ختم النبوة دون ختم الرسالة مستدلا بهذه الرواية و نظائرها.
و الجواب: أن النبوة أعم مصداقا من الرسالة و ارتفاع الأعم يستلزم ارتفاع الأخص و لا دلالة في الروايات كما عرفت على العموم من وجه بين الرسالة و النبوة بل الروايات صريحة في العموم المطلق.
و في العيون، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: إنما سمي أولو العزم أولي العزم لأنهم كانوا أصحاب العزائم و الشرائع، و ذلك أن كل نبي كان بعد نوح كان على شريعته و منهاجه و تابعا لكتابه إلى زمن إبراهيم الخليل، و كل نبي كان في أيام إبراهيم كان على شريعة إبراهيم و منهاجه و تابعا لكتابه إلى زمن موسى، و كل نبي كان في زمن موسى كان على شريعة موسى و منهاجه و تابعا لكتابه إلى أيام عيسى و كل نبي كان في أيام عيسى و بعده كان على شريعة عيسى و منهاجه و تابعا لكتابه إلى زمن نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فهؤلاء الخمسة أولو العزم، و هم أفضل الأنبياء و الرسل (عليهم السلام) و شريعة محمد لا تنسخ إلى يوم القيامة، و لا نبي بعده إلى يوم القيامة فمن ادعى بعده النبوة أو أتى بعد القرآن بكتاب فدمه مباح لكل من سمع ذلك منه.
أقول: و روى هذا المعنى صاحب قصص الأنبياء، عن الصادق (عليه السلام).
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل الآية، و هم نوح، و إبراهيم، و موسى، و عيسى بن مريم (عليهما السلام)، و معنى أولي العزم أنهم سبقوا الأنبياء إلى الإقرار بالله و أقروا بكل نبي كان قبلهم و بعدهم: و عزموا على الصبر مع التكذيب لهم و الأذى.
أقول: و روي من طرق أهل السنة و الجماعة عن ابن عباس و قتادة: أن أولي العزم من الأنبياء خمسة: نوح، و إبراهيم، و موسى، و عيسى، و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كما رويناه من طرق أهل البيت، و هناك أقوال أخر منسوبة إلى بعضهم: فذهب بعضهم إلى أنهم ستة: نوح، و إبراهيم، و إسحاق، و يعقوب، و يوسف، و أيوب، و ذهب بعضهم إلى أنهم الذين أمروا بالجهاد و القتال و أظهروا المكاشفة و جاهدوا في الدين، و ذهب بعضهم إلى أنهم أربعة: إبراهيم، و نوح، و هود، و رابعهم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، و هذه أقوال خالية عن الحجة و قد ذكرنا الوجه في ذلك.
و في تفسير العياشي، عن الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال:؟ كان ما بين آدم و بين نوح من الأنبياء مستخفين، و لذلك خفي ذكرهم في القرآن فلم يسموا كما سمي من استعلن من الأنبياء الحديث.
أقول: و روي هذا المعنى عن أهل بيت العصمة (عليهم السلام) بطرق كثيرة.
و في الصافي، عن المجمع عن علي (عليه السلام): بعث الله نبيا أسود لم يقص علينا قصته و في النهج، قال (عليه السلام): في خطبة له يذكر فيها آدم (عليه السلام): فأهبطه إلى دار البلية و تناسل الذرية، و اصطفى سبحانه من ولده أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم، و على تبليغ الرسالة أمانتهم، لما بدل أكثر خلقه عهد الله إليهم، فجهلوا حقه، و اتخذوا الأنداد معه، و اجتالتهم الشياطين عن معرفته، و اقتطعتهم عن عبادته، فبعث فيهم رسله، و واتر إليهم أنبياءه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، و يذكروهم منسي نعمته، و يحتجوا عليهم بالتبليغ، و يثيروا لهم دفائن العقول، و يروهم آيات المقدرة: من سقف فوقهم مرفوع، و مهاد تحتهم موضوع، و معايش تحييهم، و آجال تفنيهم، و أوصاب تهرمهم، و أحداث تتابع عليهم، و لم يخل الله سبحانه خلقه من نبي مرسل، أو كتاب منزل، أو حجة لازمة أو محجة قائمة، رسل لا يقصر بهم قلة عددهم و لا كثرة المكذبين لهم: من سابق سمي له من بعده، أو غابر عرفه من قبله، على ذلك نسلت القرون، و مضت الدهور، و سلفت الآباء، و خلفت الأبناء، إلى أن بعث الله سبحانه محمدا لإنجاز عدته، و تمام نبوته الخطبة.
أقول: قوله: اجتالتهم أي حملتهم على الجولان إلى كل جانب، و قوله: واتر إليهم، أي أرسل واحدا بعد واحد، و الأوصاب جمع وصب و هو المرض، و الأحداث جمع الحدث و هو النازلة، و قوله نسلت القرون أي مضت، و إنجاز العدة تصديق الوعد، و المراد به الوعد الذي وعده الله سبحانه بإرسال رسوله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و بشر به عيسى (عليه السلام) و غيره من الأنبياء (عليهم السلام)، قال تعالى: «و تمت كلمة ربك صدقا و عدلا:» الأنعام - 115.
و في تفسير العياشي، عن عبد الله بن الوليد قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): قال الله تعالى لموسى (عليه السلام): و كتبنا له في الألواح من كل شيء فعلمنا أنه لم يكتب لموسى الشيء كله، و قال تعالى لعيسى: لأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه، و قال الله تعالى لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم): و جئنا بك شهيدا على هؤلاء و نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء.
أقول: و روي في بصائر الدرجات، هذا المعنى عن عبد الله بن الوليد بطريقين، و قوله (عليه السلام) قال الله لموسى «إلخ»، إشارة إلى أن قوله تعالى في الألواح من كل شيء يفسر قوله تعالى في حق التوراة: «و تفصيل كل شيء» إذ لو كان المراد به استيعاب البيان لجميع جهات كل شيء لم يصح قوله: في الألواح من كل شيء فهذا الكلام شاهد على أن المراد من تفصيل كل شيء تفصيله بوجه لا من جميع الجهات فافهم.
بحث فلسفي
مسألة النبوة العامة بالنظر إلى كون النبوة نحو تبليغ للأحكام و قوانين مجعولة مشرعة و هي أمور اعتبارية غير حقيقية، و إن كانت مسألة كلامية غير فلسفية فإن البحث الفلسفي إنما ينال الأشياء من حيث وجوداتها الخارجية و حقائقها العينية و لا يتناول الأمور المجعولة الاعتبارية.
لكنها بالنظر إلى جهة أخرى مسألة فلسفية و بحث حقيقي، و ذلك أن المواد الدينية: من المعارف الأصلية و الأحكام الخلقية و العملية لها ارتباط بالنفس الإنسانية من جهة أنها تثبت فيها علوما راسخة أو أحوالا تؤدي إلى ملكات راسخة، و هذه العلوم و الملكات تكون صورا للنفس الإنسانية تعين طريقها إلى السعادة و الشقاوة، و القرب و البعد من الله سبحانه، فإن الإنسان بواسطة الأعمال الصالحة و الاعتقادات الحقة الصادقة يكتسب لنفسه كمالات لا تتعلق إلا بما هي له عند الله سبحانه من القرب و الزلفى، و الرضوان و الجنان و بواسطة الأعمال الطالحة و العقائد السخيفة الباطلة يكتسب لنفسه صورا لا تتعلق إلا بالدنيا الداثرة و زخارفها الفانية و يؤديها ذلك أن ترد بعد مفارقة الدنيا و انقطاع الاختيار إلى دار البوار و مهاد النار و هذا سير حقيقي.
و على هذا فالمسألة حقيقية و الحجة التي ذكرناها في البيان السابق و استفدناها من الكتاب العزيز حجة برهانية.
توضيح ذلك: أن هذه الصور للنفس الإنسانية الواقعة في طريق الاستكمال، و الإنسان نوع حقيقي بمعنى أنه موجود حقيقي مبدأ لآثار وجودية عينية، و العلل الفياضة للموجودات أعطتها قابلية النيل إلى كمالها الأخير في وجودها بشهادة التجربة و البرهان، و الواجب تعالى تام الإفاضة فيجب أن يكون هناك إفاضة لكل نفس مستعدة بما يلائم استعدادها من الكمال، و يتبدل به قوتها إلى الفعلية، من الكمال الذي يسمى سعادة إن كانت ذات صفات حسنة و ملكات فاضلة معتدلة أو الذي يسمى شقاوة إن كانت ذات رذائل و هيئات ردية.
و إذ كانت هذه الملكات و الصور حاصلة لها من طريق الأفعال الاختيارية المنبعثة عن اعتقاد الصلاح و الفساد، و الخوف و الرجاء، و الرغبة إلى المنافع، و الرهبة من المضار، وجب أن تكون هذه الإفاضة أيضا متعلقه بالدعوة الدينية بالتبشير و الإنذار و التخويف و التطميع لتكون شفاء للمؤمنين فيكملوا به في سعادتهم، و خسارا للظالمين فيكملوا به في شقاوتهم، و الدعوة تحتاج إلى داع يقدم بها و هو النبي المبعوث من عنده تعالى.
فإن قلت: كفى في الدعوة ما يدعو إليه العقل من اتباع الإنسان للحق في الاعتقاد و العمل، و سلوكه طريق الفضيلة و التقوى، فأي حاجة إلى بعث الأنبياء.
قلت: العقل الذي يدعو إلى ذلك، و يأمر به هو العقل العملي الحاكم بالحسن و القبح، دون العقل النظري المدرك لحقائق الأشياء كما مر بيانه سابقا، و العقل العملي يأخذ مقدمات حكمه من الإحساسات الباطنة، و الإحساسات التي هي بالفعل في الإنسان في بادي حاله هي إحساسات القوى الشهوية و الغضبية، و أما القوة الناطقة القدسية فهي بالقوة، و قد مر أن هذا الإحساس الفطري يدعو إلى الاختلاف، فهذه التي بالفعل لا تدع الإنسان يخرج من القوة إلى الفعل كما هو مشهود من حال الإنسان فكل قوم أو فرد فقد التربية الصالحة عاد عما قليل إلى التوحش و البربرية مع وجود العقل فيهم و حكم الفطرة عليهم، فلا غناء عن تأييد إلهي بنبوة تؤيد العقل.
بحث اجتماعي
فإن قلت: هب أن العقل لا يستقل بالعمل في كل فرد أو في كل قوم في جميع التقادير و لكن الطبيعة تميل دائما إلى ما فيه صلاحها و الاجتماع التابع لها مثلها يهدي إلى صلاح أفراده فهو يستقر بالآخرة على هيئة صالحة فيها سعادة أفراد المجتمعين و هو الأصل المعروف بتبعية المحيط فالتفاعل بين الجهات المتضادة يؤدي بالآخرة إلى اجتماع صالح مناسب لمحيط الحياة الإنسانية جالب لسعادة النوع المجتمع الأفراد، و يشهد به ما نشاهده و يؤيده التاريخ أن الاجتماعات لا تزال تميل إلى التكامل و تتمنى الصلاح و تتوجه إلى السعادة اللذيذة عند الإنسان، فمنها ما بلغ مبتغاه و أمنيته كما في بعض الأمم مثل سويسرة، و منها ما هو في الطريق و لما يتم له شرائط الكمال و هي قريبة أو بعيدة كما في سائر الدول.
قلت: تمايل الطبيعة إلى كمالها و سعادتها مما لا يسع أحدا إنكاره، و الاجتماع المنتهي إلى الطبيعة حاله حال الطبيعة في التوجه إلى الكمال لكن الذي ينبغي الإمعان فيه أن هذا التمايل و التوجه لا يستوجب فعلية الكمال و السعادة الحقيقية، لما ذكرنا من فعلية الكمال الشهوي و الغضبي في الإنسان و كون مبادىء السعادة الحقيقية فيه بالقوة، و الشاهد عليه عين ما استشهد به في الاعتراض من كون الاجتماعات المدنية المنقرضة و الحاضرة متوجهة إلى الكمال، و نيل بعضها إلى المدنية الفاضلة السعيدة، و قرب البعض الآخر أو بعده، فإن الذي نجده عند هؤلاء من الكمال و السعادة هو الكمال الجسمي و ليس الكمال الجسمي هو كمال الإنسان، فإن الإنسان ليس هو الجسم بل هو مركب من جسم و روح، مؤلف من جهتين مادية و معنوية له حياة في البدن و حياة بعد مفارقته من غير فناء و زوال، يحتاج إلى كمال و سعادة تستند إليها في حياته الآخرة، فليس من الصحيح أن يعد كماله الجسمي الموضوع على أساس الحياة الطبيعية كمالا له و سعادة بالنسبة إليه، و حقيقته هذه الحقيقة.
فتبين أن الاجتماع بحسب التجربة إنما يتوجه بالفعل إلى فعلية الكمال الجسماني دون فعلية الكمال الإنساني، و إن كان في قصدها هداية الإنسان إلى كمال حقيقته لا كمال جسمه الذي في تقوية جانبه هلاك الإنسانية و انحلال تركيبه، و ضلاله عن صراطه المستقيم، فهذا الكمال لا يتم له إلا بتأييد من النبوة، و الهداية الإلهية.
فإن قلت: لو صحت هذه الدعوة النبوية و لها ارتباط بالهداية التكوينية لكان لازمها فعلية التأثير في الاجتماعات الإنسانية، كما أن هداية الإنسان بل كل موجود مخلوق إلى منافع وجوده أمر فعلي جار في الخلقة و التكوين، فكان من اللازم أن يتلبس به الاجتماعات، و يجري في ما بين الناس مجرى سائر الغرائز الجارية، و ليس كذلك، فكيف يكون إصلاحا حقيقيا و لا تقبله الاجتماعات الإنسانية؟ فليست الدعوة الدينية في رفعها اختلافات الحياة إلا فرضية غير قابلة الانطباق على الحقيقة.
قلت: أولا أثر الدعوة الدينية مشهود معاين، لا يرتاب فيه إلا مكابر، فإنها في جميع أعصار وجودها منذ ظهرت، ربت ألوفا و ألوفا من الأفراد في جانب السعادة، و أضعاف ذلك و أضعاف أضعافهم في جانب الشقاء بالقبول و الرد و الانقياد و الاستكبار، و الإيمان و الكفر، مضافا إلى بعض الاجتماعات الدينية المنعقدة أحيانا من الزمان، على أن الدنيا لم تقض عمرها بعد، و لما ينقرض العالم الإنساني، و من الممكن أن يتحول الاجتماع الإنساني يوما إلى اجتماع ديني صالح، فيه حياة الإنسانية الحقيقية و سعادة الفضائل و الأخلاق الراقية يوم لا يعبد فيه إلا الله سبحانه، و يسار فيه بالعدالة و الفضيلة، و ليس من الجائز أن نعد مثل هذا التأثير العظيم هينا لا يعبأ به.
و ثانيا: أن الأبحاث الاجتماعية و كذا علم النفس و علم الأخلاق تثبت أن الأفعال المتحققة في الخارج لها ارتباط بالأحوال و الملكات من الأخلاق ترتضع من ثدي الصفات النفسانية، و لها تأثير في النفوس، فالأفعال آثار النفوس و صفاتها، و لها آثار في النفوس في صفاتها، و يستنتج من هناك أصلان: أصل سراية الصفات و الأخلاق، و أصل وراثتها، فهي تتسع وجودا بالسراية عرضا، و تتسع ببقاء وجودها بالوراثة طولا.
فهذه الدعوة العظيمة و هي تصاحب الاجتماعات الإنسانية من أقدم عهودها، في تاريخها المضبوط و قبل ضبط التاريخ لا بد أن تكون ذات أثر عميق في حياة الإنسان الاجتماعية من حيث الأخلاق الفاضلة و الصفات الحسنة الكريمة، فللدعوة الدينية آثار في النفوس و إن لم تجبها و لم تؤمن بها.
بل حقيقة الأمر: أن ما نشاهد في الاجتماعات الحاضرة من الملل و الأمم الحية من آثار النبوة و الدين، و قد ملكوها بالوراثة أو التقليد، فإن الدين منذ ظهر بين هذا النوع حملته و انتحلت به أمم و جماعات هامة، و هو الداعي الوحيد الذي يدعو إلى الإيمان، و الأخلاق الفاضلة و العدل و الصلاح، فالموجود من الخصائل الحميدة بين الناس اليوم و إن كان قليلا بقايا من آثاره و نتائجه، فإن التدابير العامة في الاجتماعات المتكونة ثلاثة لا رابع لها: أحدها تدبير الاستبداد و هو يدعو إلى الرقية في جميع الشئون الإنسانية، و ثانيها القوانين المدنية و هي تجري و تحكم في الأفعال فحسب، و تدعو إلى الحرية فيما وراء ذلك من الأخلاق و غيرها، و ثالثها الدين و هو يحكم في الاعتقادات و الأخلاق و الأفعال جميعا و يدعو إلى إصلاح الجميع.
فلو كان في الدنيا خير مرجو أو سعادة لوجب أن ينسب إلى الدين و تربيته.
و يشهد بذلك ما نشاهده من أمر الأمم التي بنت اجتماعها على كمال الطبيعة، و أهملت أمر الدين و الأخلاق، فإنهم لم يلبثوا دون أن افتقدوا الصلاح و الرحمة و المحبة و صفاء القلب و سائر الفضائل الخلقية و الفطرية مع وجود أصل الفطرة فيهم، و لو كانت أصل الفطرة كافية، و لم تكن هذه الصفات بين البشر من البقايا الموروثة من الدين لما افتقدوا شيئا من ذلك.
على أن التاريخ أصدق شاهد على الاقتباسات التي عملتها الأمم المسيحية بعد الحروب الصليبية، فاقتبسوا مهمات النكات من القوانين العامة الإسلامية فتقلدوها و تقدموا بها، و الحال أن المسلمين اتخذوها وراءهم ظهريا، فتأخر هؤلاء و تقدم أولئك، و الكلام طويل الذيل.
و بالجملة الأصلان المذكوران، أعني السراية و الوراثة، و هما التقليد الغريزي في الإنسان و التحفظ على السيرة المألوفة يوجبان نفوذ الروح الديني في الاجتماعات كما يوجبان في غيره ذلك و هو تأثير فعلي.
فإن قلت: فعلى هذه فما فائدة الفطرة فإنها لا تغني طائلا و إنما أمر السعادة بيد النبوة؟ و ما فائدة بناء التشريع على أساس الفطرة على ما تدعيه النبوة؟.
قلت: ما قدمناه في بيان ما للفطرة من الارتباط بسعادة الإنسان و كماله يكفي في حل هذه الشبهة، فإن السعادة و الكمال الذي تجلبه النبوة إلى الإنسان ليس أمرا خارجا عن هذا النوع، و لا غريبا عن الفطرة، فإن الفطرة هي التي تهتدي إليه، لكن هذا الاهتداء لا يتم لها بالفعل وحدها من غير معين يعينها على ذلك، و هذا المعين الذي يعينها على ذلك و هو حقيقة النبوة ليس أيضا أمرا خارجا عن الإنسانية و كمالها، منضما إلى الإنسان كالحجر الموضوع في جنب الإنسان مثلا، و إلا كان ما يعود منه إلى الإنسان أمرا غير كماله و سعادته كالثقل الذي يضيفه الحجر إلى ثقل الإنسان في وزنه، بل هو أيضا كمال فطري للإنسان مذخور في هذا النوع، و هو شعور خاص و إدراك مخصوص مكمون في حقيقته لا يهتدي إليه بالفعل إلا آحاد من النوع أخذتهم العناية الإلهية، كما أن للبالغ من الإنسان شعورا خاصا بلذة النكاح، لا تهتدي إليه بالفعل بقية الأفراد غير البالغين بالفعل، و إن كان الجميع من البالغ و غير البالغ مشتركين في الفطرة الإنسانية، و الشعور شعور مرتبط بالفطرة.
و بالجملة لا حقيقة النبوة أمر زائد على إنسانية الإنسان الذي يسمى نبيا، و خارج عن فطرته، و لا السعادة التي تهتدي سائر الأمة إليها أمر خارج عن إنسانيتهم و فطرتهم، غريب عما يستأنسه وجودهم الإنساني، و إلا لم تكن كمالا و سعادة بالنسبة إليهم.
فإن قلت: فيعود الإشكال على هذا التقرير إلى النبوة، فإن الفطرة على هذا كافية وحدها و النبوة غير خارجة عن الفطرة.
فإن المتحصل من هذا الكلام، هو أن النوع الإنساني المتمدن بفطرته و المختلف في اجتماعه يتميز من بين أفراده آحاد من الصلحاء فطرتهم مستقيمة، و عقولهم سليمة عن الأوهام و التهوسات و رذائل الصفات، فيهتدون باستقامة فطرتهم، و سلامة عقولهم إلى ما فيه صلاح الاجتماع، و سعادة الإنسان، فيضعون قوانين فيها مصلحة الناس، و عمران الدنيا و الآخرة، فإن النبي هو الإنسان الصالح الذي له نبوغ اجتماعي.
قلت: كلا! و إنما هو تفسير لا ينطبق على حقيقة النبوة، و لا ما تستتبعه.
أما أولا: فلأن ذلك فرض افترضه بعض علماء الاجتماع ممن لا قدم له في البحث الديني، و الفحص عن حقائق المبدإ و المعاد.
فذكر أن النبوة نبوغ خاص اجتماعي استتبعته استقامة الفطرة و سلامة العقل، و هذا النبوغ يدعو إلى الفكر في حال الاجتماع، و ما يصلح به هذا الاجتماع المختل، و ما يسعد به الإنسان الاجتماعي.
فهذا النابغة الاجتماعي هو النبي، و الفكر الصالح المترشح من قواه الفكرية هو الوحي، و القوانين التي يجعلها لصلاح الاجتماع هو الدين، و روحه الطاهر الذي يفيض هذه الأفكار إلى قواه الفكرية و لا يخون العالم الإنساني باتباع الهوى هو الروح الأمين و هو جبرائيل، و الموحي الحقيقي هو الله سبحانه، و الكتاب الذي يتضمن أفكاره العالية الطاهرة هو الكتاب السماوي، و الملائكة هي القوى الطبيعية أو الجهات الداعية إلى الخير، و الشيطان هي النفس الأمارة بالسوء أو القوى أو الجهات الداعية إلى الشر و الفساد، و على هذا القياس.
و هذا فرض فاسد، و قد مر في البحث عن الإعجاز، إن النبوة بهذا المعنى لأن تسمى لعبة سياسية أولى بها من أن تسمى نبوة إلهية.
و قد تقدم أن هذا الفكر الذي يسمي هؤلاء الباحثون نبوغه الخاص نبوة من خواص العقل العملي، الذي يميز بين خير الأفعال و شرها بالمصلحة و المفسدة و هو أمر مشترك بين العقلاء من أفراد الإنسان و من هدايا الفطرة المشتركة، و تقدم أيضا أن هذا العقل بعينه هو الداعي إلى الاختلاف، و إذا كان هذا شأنه لم يقدر من حيث هو كذلك على رفع الاختلاف، و احتاج فيه إلى متمم يتمم أمره، و قد عرفت أنه يجب أن يكون هذا المتمم نوعا خاصا من الشعور يختص به بحسب الفعلية بعض الآحاد من الإنسان و تهتدي به الفطرة إلى سعادة الإنسان الحقيقية في معاشه و معاده.
و من هنا يظهر أن هذا الشعور من غير سنخ الشعور الفكري، بمعنى أن ما يجده الإنسان من النتائج الفكرية من طريق مقدماتها العقلية غير ما يجده من طريق الشعور النبوي، و الطريق غير الطريق.
و لا يشك الباحثون في خواص النفس في أن في الإنسان شعورا نفسيا باطنيا، ربما يظهر في بعض الآحاد من أفراده، يفتح له بابا إلى عالم وراء هذا العالم، و يعطيه عجائب من المعارف و المعلومات، وراء ما يناله العقل و الفكر، صرح به جميع علماء النفس من قدمائنا و جمع من علماء النفس من أوروبا مثل جمز الإنجليزي و غيره.
فقد تحصل أن باب الوحي النبوي غير باب الفكر العقلي، و أن النبوة و كذا الشريعة و الدين و الكتاب و الملك و الشيطان لا ينطبق عليها ما اختلقوه من المعاني.
و أما ثانيا: فلأن المأثور من كلام هؤلاء الأنبياء المدعين لمقام النبوة و الوحي مثل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و عيسى و موسى و إبراهيم و نوح «(عليهما السلام)» و غيرهم - و بعضهم يصدق بعضا - و كذا الموجود من كتبهم كالقرآن، صريح في خلاف هذا الذي فسروا به النبوة و الوحي و نزول الكتاب و الملك و غير ذلك من الحقائق.
فإن صريح الكتاب و السنة و ما نقل من الأنبياء العظام (عليهم السلام) أن هذه الحقائق و آثارها أمور خارجة عن سنخ الطبيعة، و نشأة المادة، و حكم الحس، بحيث لا يعد إرجاعها إلى الطبيعة و حكمها إلا تأويلا بما لا يقبله طبع الكلام، و لا يرتضيه ذوق التخاطب.
و قد تبين بما ذكرنا أن الأمر الذي يرفع فساد الاختلاف عن الاجتماع الإنساني و هو الشعور الباطني الذي يدرك صلاح الاجتماع أعني القوة التي يمتاز بها النبي من غيره أمر وراء الشعور الفكري الذي يشترك فيه جميع أفراد الإنسان.
فإن قلت: فعلى هذا يكون هذا الشعور الباطني أمرا خارقا للعادة فإنه أمر لا يعرفه أفراد الإنسان من أنفسهم و إنما هو أمر يدعيه الشاذ النادر منهم، فكيف يمكن أن يسوق الجميع إلى إصلاح شأنهم و يهدي النوع إلى سعادته الحقيقية؟! و قد مر سابقا أن كل ما فرض هاديا للإنسان إلى سعادته و كماله النوعي وجب أن يهديه بالارتباط و الاتحاد مع فطرته، لا بنحو الانضمام كانضمام الحجر الموضوع في جنب الإنسان إليه.
قلت: كون هذا الأمر خارقا للعادة مما لا ريب فيه، و كذا كونه أمرا من قبيل الإدراكات الباطنية و نحو شعور مستور عن الحواس الظاهرية مما لا ريب فيه، لكن العقل لا يدفع الأمر الخارق للعادة و لا الأمر المستور عن الحواس الظاهرة و إنما يدفع المحال، و للعقل طريق إلى تصديق الأمور الخارقة للعادة المستورة عن الحواس الظاهرة فإن له أن يستدل على الشيء من طريق علله و هو الاستدلال اللمي، أو من لوازمه أو آثاره و هو الاستدلال الإني فيثبت بذلك وجوده، و النبوة بالمعنى الذي ذكرنا يمكن أن يستدل عليها بأحد طريقين: فتارة من طريق آثاره و تبعاته و هو اشتمال الدين الذي يأتي به النبي على سعادة الإنسان في دنياه و آخرته، و تارة من جهة اللوازم و هو أن النبوة لما كانت أمرا خارقا للعادة فدعواها ممن يدعيها هي دعوى أن الذي وراء الطبيعة و هو إلهها الذي يهديها إلى سعادتها و يهدي النوع الإنساني منها إلى كماله و سعادته يتصرف في بعض أفراد النوع تصرفا خارقا للعادة و هو التصرف بالوحي، و لو كان هذا التصرف الخارق للعادة جائزا جاز غيره من خوارق العادة، لأن حكم الأمثال فيما يجوز و فيما لا يجوز واحد، فلو كانت دعوى النبوة من النبي حقا و كان النبي واجدا لها لكان من الجائز أن يأتي بأمر آخر خارق للعادة مرتبطة بنبوته نحو ارتباط يوجب تصديق العقل الشاك في نبوة هذا المدعي للنبوة، و هذا الأمر الخارق للعادة هي الآية المعجزة و قد تكلمنا في الإعجاز في تفسير قوله تعالى: «و إن كنتم في شك مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله الآية:» البقرة - 23.
فإن قلت: هب أن هذا الاختلاف ارتفع بهذا الشعور الباطني المسمى بوحي النبوة و أثبتها النبي بالإعجاز، و كان على الناس أن يأخذوا بآثاره و هو الدين المشرع الذي جاء به النبي، لكن ما المؤمن عن الغلط؟ و ما الذي يصون النبي عن الوقوع في الخطإ في تشريعه و هو إنسان طبعه طبع سائر الأفراد في جواز الوقوع في الخطإ.
و من المعلوم أن وقوع الخطإ في هذه المرحلة أعني مرحلة الدين و رفع الاختلاف عن الاجتماع يعادل نفس الاختلاف الاجتماعي في سد طريق استكمال النوع الإنساني، و إضلاله هذا النوع في سيره إلى سعادته، فيعود المحذور من رأس!.
قلت: الأبحاث السابقة تكفي مئونة حل هذه العقدة، فإن الذي ساق هذا النوع نحو هذه الفعلية أعني الأمر الروحي الذي يرفع الاختلاف إنما هو الناموس التكويني الذي هو الإيصال التكويني لكل نوع من الأنواع الوجودية إلى كماله الوجودي و سعادته الحقيقية، فإن السبب الذي أوجب وجود الإنسان في الخارج وجودا حقيقيا كسائر الأنواع الخارجية هو الذي يهديه هداية تكوينية خارجية إلى سعادته، و من المعلوم أن الأمور الخارجية من حيث إنها خارجية لا تعرضها الخطأ و الغلط، أعني الوجود الخارجي لا يوجد فيه الخطأ و الغلط لوضوح أن ما في الخارج هو ما في الخارج! و إنما يعرض الخطأ و الغلط في العلوم التصديقية و الأمور الفكرية من جهة تطبيقها على الخارج فإن الصدق و الكذب من خواص القضايا، تعرضها من حيث مطابقتها للخارج و عدمها، و إذا فرض أن الذي يهدي هذا النوع إلى سعادته و رفع اختلافه العارض على اجتماعه هو الإيجاد و التكوين لزم أن لا يعرضه غلط و لا خطأ في هدايته، و لا في وسيلة هدايته التي هي روح النبوة و شعور الوحي، فلا التكوين يغلط في وضعه هذا الروح و الشعور في وجود النبي، و لا هذا الشعور الذي وضعه يغلط في تشخيصه مصالح النوع عن مفاسده و سعادته عن شقائه، و لو فرضنا له غلطا و خطأ في أمره وجب أن يتداركه بأمر آخر مصون عن الغلط و الخطإ، فمن الواجب أن يقف أمر التكوين على صواب لا خطأ فيه و لا غلط.
فظهر: أن هذا الروح النبوي لا يحل محلا إلا بمصاحبة العصمة، و هي المصونية عن الخطإ في أمر الدين و الشريعة المشرعة، و هذه العصمة غير العصمة عن المعصية كما أشرنا إليه سابقا، فإن هذه عصمة في تلقي الوحي من الله سبحانه، و تلك عصمة في مقام العمل و العبودية، و هناك مرحلة ثالثة من العصمة و هي العصمة في تبليغ الوحي، فإن كلتيهما واقعتان في طريق سعادة الإنسان التكوينية وقوعا تكوينيا، و لا خطأ و لا غلط في التكوين.
و قد ظهر بما ذكرنا الجواب عن إشكال آخر في المقام و هو: أنه لم لا يجوز أن يكون هذا الشعور الباطني مثل الشعور الفطري المشترك أعني الشعور الفكري في نحو الوجود بأن يكون محكوما بحكم التغير و التأثر؟ فإن الشعور الفطري و إن كان أمرا غير مادي، و من الأمور القائمة بالنفس المجردة عن المادة إلا أنه من جهة ارتباطه بالمادة يقبل الشدة و الضعف و البقاء و البطلان كما في مورد الجنون و السفاهة و البلاهة و الغباوة و ضعف الشيب و سائر الآفات الواردة على القوى المدركة، فكذلك هذا الشعور الباطني أمر متعلق بالبدن المادي نحوا من التعلق، و إن سلم أنه غير مادي في ذاته فيجب أن يكون حاله حال الشعور الفكري في قبول التغير و الفساد، و مع إمكان عروض التغير و الفساد فيه يعود الإشكالات السابقة البتة.
و الجواب: إنا بينا أن هذا السوق أعني سوق النوع الإنساني نحو سعادته الحقيقية إنما يتحقق بيد الصنع و الإيجاد الخارجي دون العقل الفكري، و لا معنى لتحقق الخطإ في الوجود الخارجي.
و أما كون هذا الشعور الباطني في معرض التغير و الفساد لكونه متعلقا نحو تعلق بالبدن فلا نسلم كون كل شعور متعلق بالبدن معرضا للتغير و الفساد، و إنما القدر المسلم من ذلك هذا الشعور الفكري و قد مر أن الشعور النبوي ليس من قبيل الشعور الفكري و ذلك أن من الشعور شعور الإنسان بنفسه، و هو لا يقبل البطلان و الفساد و التغير و الخطأ فإنه علم حضوري معلومه عين المعلوم الخارجي، و تتمة هذا الكلام موكول إلى محله.
فقد تبين مما مر أمور: أحدها: انسياق الاجتماع الإنساني إلى التمدن و الاختلاف.
ثانيها: أن هذا الاختلاف القاطع لطريق سعادة النوع لا يرتفع و لن يرتفع بما يضعه العقل الفكري من القوانين المقررة.
ثالثها: أن رافع هذا الاختلاف إنما هو الشعور النبوي الذي يوجده الله سبحانه في بعض آحاد الإنسان لا غير.
رابعها: أن سنخ هذا الشعور الباطني الموجود في الأنبياء غير سنخ الشعور الفكري المشترك بين العقلاء من أفراد الإنسان.
خامسها: أن هذا الشعور الباطني لا يغلط في إدراكه الاعتقادات و القوانين المصلحة لحال النوع الإنساني في سعادته الحقيقية.
سادسها: أن هذه النتائج و يهمنا من بينها الثلاثة الأخيرة أعني: لزوم بعثة الأنبياء، و كون شعور الوحي غير الشعور الفكري سنخا، و كون النبي معصوما غير غالط في تلقي الوحي نتائج ينتجها الناموس العام المشاهد في هذه العالم الطبيعي، و هو سير كل واحد من الأنواع المشهودة فيه نحو سعادته بهداية العلل الوجودية التي جهزتها بوسائل السير نحو سعادته و الوصول إليها و التلبس بها، و الإنسان أحد هذه الأنواع، و هو مجهز بما يمكنه به أن يعتقد الاعتقاد الحق و يتلبس بالملكات الفاضلة، و يعمل عملا صالحا في مدينة صالحة فاضلة، فلا بد أن يكون الوجود يهيىء له هذه السعادة يوما في الخارج و يهديه إليه هداية تكوينية ليس فيها غلط و لا خطأ على ما مر بيانه.
|