بيان
قد مر أن هذه الآيات آخذة من قوله تعالى: يا أيها آمنوا ادخلوا في السلم كافة إلى آخر هذه الآية، ذات سياق واحد يربط بعضها ببعض.
قوله تعالى: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة، تثبيت لما تدل عليه الآيات السابقة، و هو أن الدين نوع هداية من الله سبحانه للناس إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا و الآخرة، و نعمة حباهم الله بها، فمن الواجب أن يسلموا له و لا يتبعوا خطوات الشيطان، و لا يلقوا فيه الاختلاف، و لا يجعلوا الدواء داء، و لا يبدلوا نعمة الله سبحانه كفرا و نقمة من اتباع الهوى، و ابتغاء زخرف الدنيا و حطامها فيحل عليهم غضب من ربهم كما حل ببني إسرائيل حيث بدلوا نعمة الله من بعد ما جاءتهم، فإن المحنة دائمة، و الفتنة قائمة، و لن ينال أحد من الناس سعادة الدين و قرب رب العالمين إلا بالثبات و التسليم.
و في الآية التفات إلى خطاب المؤمنين بعد تنزيلهم في الآيات السابقة منزلة الغيبة، فإن أصل الخطاب كان معهم و وجه الكلام إليهم في قوله: يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة، و إنما عدل عن ذلك إلى غيره لعناية كلامية أوجبت ذلك، و بعد انقضاء الوطر عاد إلى خطابهم ثانيا... و كلمة أم منقطعة تفيد الإضراب، و المعنى على ما قيل: بل أ حسبتم أن تدخلوا الجنة «إلخ»، و الخلاف في أم المنقطعة معروف، و الحق أن أم لإفادة الترديد، و أن الدلالة على معنى الإضراب من حيث انطباق معنى الإضراب على المورد، لا أنها دلالة وضعية، فالمعنى في المورد مثلا: هل انقطعتم بما أمرناكم من التسليم بعد الإيمان و الثبات على نعمة الدين، و الاتفاق و الاتحاد فيه أم لا بل حسبتم أن تدخلوا الجنة «إلخ».
قوله تعالى: و لما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم، المثل بكسر الميم فسكون الثاء، و المثل بفتح الميم و الثاء كالشبه، و الشبه و المراد به ما يمثل الشيء و يحضره و يشخصه عند السامع، و منه المثل بفتحتين، و هو الجملة أو القصة التي تفيد استحضار معنى مطلوب في ذهن السامع بنحو الاستعارة التمثيلية كما قال تعالى: «مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا:» الجمعة - 5، و منه أيضا المثل بمعنى الصفة كقوله تعالى: «انظر كيف ضربوا لك الأمثال:» الفرقان - 9، و إنما قالوا له (صلى الله عليه وآله وسلم): مجنون و ساحر و كذاب و نحو ذلك، و حيث إنه تعالى يبين المثل الذي ذكره بقوله: مستهم البأساء و الضراء إلخ فالمراد به المعنى الأول.
قوله تعالى: مستهم البأساء و الضراء إلى آخره لما اشتد شوق المخاطب ليفهم تفصيل الإجمال الذي دل عليه بقوله: و لما يأتكم مثل الذين، بين ذلك بقوله: مستهم البأساء و الضراء و البأساء هو الشدة المتوجهة إلى الإنسان في خارج نفسه كالمال و الجاه و الأهل و الأمن الذي يحتاج إليه في حياته، و الضراء هي الشدة التي تصيب الإنسان في نفسه كالجرح و القتل و المرض، و الزلزلة و الزلزال معروف و أصله من زل بمعنى عثر، كررت اللفظة للدلالة على التكرار كان الأرض مثلا تحدث لها بالزلزلة عثرة بعد عثرة، و هو كصر و صرصر، و صل و صلصل، و كب و كبكب، و الزلزال في الآية كناية عن الاضطراب و الإدهاش.
قوله تعالى: حتى يقول الرسول و الذين آمنوا معه، قرىء بنصب يقول، و الجملة على هذا في محل الغاية لما سبقها، و قرىء برفع يقول و الجملة على هذا لحكاية الحال الماضية، و المعنيان و إن كانا جميعا صحيحين لكن الثاني أنسب للسياق، فإن كون الجملة غاية يعلل بها قوله: و زلزلوا لا يناسب السياق كل المناسبة.
قوله تعالى: متى نصر الله، الظاهر أنه مقول قول الرسول و الذين آمنوا معه جميعا، و لا ضير في أن يتفوه الرسول بمثل هذا الكلام استدعاء و طلبا للنصر الذي وعد به الله سبحانه رسله و المؤمنين بهم كما قال تعالى: «و لقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون:» الصافات - 172، و قال تعالى: «كتب الله لأغلبن أنا و رسلي:» المجادلة - 21، و قد قال تعالى أيضا: «حتى إذا استيئس الرسل و ظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا:» يوسف - 110، و هو أشد لحنا من هذه الآية.
و الظاهر أيضا أن قوله تعالى: ألا إن نصر الله قريب مقول له تعالى لا تتمة لقول الرسول و الذين آمنوا معه... و الآية كما مرت إليه الإشارة سابقا تدل على دوام أمر الابتلاء و الامتحان و جريانه في هذه الأمة كما جرى في الأمم السابقة.
و تدل أيضا على اتحاد الوصف و المثل بتكرر الحوادث الماضية غابرا، و هو الذي يسمى بتكرر التاريخ و عوده.
|