بيان
فريق من الآيات تحتج على المشركين في أمر التوحيد و المعاد فالآيتان الأوليان تتضمنان البرهان على المعاد، و بقية الآيات و هي خمس مسوقة للتوحيد تقيم البرهان على ذلك من وجهين على ما سيأتي.
قوله تعالى: «قل لمن ما في السماوات و الأرض قل لله» شروع في البرهنة على المعاد، و محصله أن الله تعالى مالك ما في السماوات و الأرض جميعا له أن يتصرف فيها كيف شاء و أراد، و قد اتصف سبحانه بصفة الرحمة و هي رفع حاجة كل محتاج و إيصال كل شيء إلى ما يستحقه و إفاضته عليه و عدة من عباده و منهم الإنسان صالحون لحياة خالدة مستعدون لأن يسعدوا فيها فهو بمقتضى ملكه و رحمته سيتصرف فيهم بحشرهم و إعطائهم ما يستحقونه البتة.
فقوله تعالى: «قل لمن ما في السماوات و الأرض» إلخ، يتضمن إحدى مقدمات الحجة و قوله: «كتب على نفسه الرحمة» يتضمن مقدمة أخرى، و قوله: «و له ما سكن في الليل و النهار» إلخ، مقدمة أخرى ثالثة بمنزلة الجزء من الحجة.
فقوله تعالى: «قل لمن ما في السماوات و الأرض» إلخ، يأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يسألهم عمن يملك السماوات و الأرض و له التصرف فيها بما شاء من غير مانع يمنعه، و هو الله سبحانه من غير شك لأن غيره حتى الأصنام و أرباب الأصنام التي يدعوها المشركون هي كسائر الخلقة ينتهي خلقها و أمرها إليه تعالى فهو المالك لما في السماوات و الأرض جميعا.
و لكون المسئول عنه معلوما بينا عند السائل و المسئول جميعا و الخصم معترف به لم يحتج إلى صدور الجواب عن الخصم و اعترافه به بلسانه، و أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يذكر هو الجواب و يتكفل ذلك لتتم الحجة من غير انتظار ما لجوابهم.
و السؤال عن الخصم، و مباشرة السائل بنفسه الجواب كلاهما من السلائق البديعة الدائرة في سرد الحجج، يقول المنعم لمن أنعم عليه فكفر بنعمته: من الذي أطعمك و سقاك و كساك؟ أنا الذي فعل ذلك بك و من بها عليك و أنت تجازيني بالكفر.
و بالجملة ثبت بهذا السؤال و الجواب أن الله سبحانه هو المالك على الإطلاق فله التصرف فيها بما شاء من إحياء و رزق و إماتة و بعث بعد الموت من غير أن يمنعه من ذلك مانع كدقة في العمل و موت و غيبة و اختلال و غير ذلك.
و بهذا تمت إحدى مقدمات الحجة فألحقها المقدمة الأخرى و هي قوله: كتب على نفسه الرحمة.
قوله تعالى: «كتب على نفسه الرحمة» الكتابة هو الإثبات و القضاء الحتم، و إذ كانت الرحمة - و هي إفاضة النعمة على مستحقها و إيصال الشيء إلى سعادته التي تليق به - من صفاته تعالى الفعلية صح أن ينسب إلى كتابته تعالى، و المعنى: أوجب على نفسه الرحمة و إفاضة النعم و إنزال الخير لمن يستحقه.
و نظيره في نسبة الفعل إلى الكتابة و نحوها قوله تعالى: «كتب الله لأغلبن أنا و رسلي»: المجادلة: 21 و قوله: «فورب السماء و الأرض إنه لحق»: الذاريات: 23 و أما صفات الذات كالحياة و العلم و القدرة فلا تصح نسبتها إلى الكتابة و نحوها البتة لا يقال: كتب على نفسه الحياة و العلم و القدرة.
و لازم كتابة الرحمة على نفسه - كما تقدم - أن يتم نعمته عليهم بجمعهم ليوم القيامة ليجزيهم بأقوالهم و أعمالهم فيفوز به المؤمنون و يخسر غيرهم.
و لذلك ذيل بقوله و هو كالنتيجة في الحجة: ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه فأكد المعنى بأبلغ التأكيد: لام القسم و نون التأكيد و قوله: لا ريب فيه.
ثم أشار إلى أن الربح في هذا اليوم للمؤمنين و الخسران على غيرهم فقال: «الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون».
و الحجة التي أقيمت في هذه الآية على المعاد غير ما أقيمت من الحجتين عليه في قوله تعالى: «و ما خلقنا السماء و الأرض و ما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار، أم نجعل الذين آمنوا و عملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار»: ص: 28 فإن الآيتين تقيمان الحجة على المعاد من جهة أن فعله تعالى ليس بباطل بل له غاية، و من جهة أن التسوية بين المؤمن و الكافر و المتقي و الفاجر ظلم لا يليق به تعالى، و هما في الدنيا لا يتميزان فلا بد من نشأة أخرى يتميزان فيها بالسعادة و الشقاوة، و هذا غير ما في هذه الآية من السلوك إلى المطلوب من طريق الرحمة.
قوله تعالى: «و له ما سكن في الليل و النهار و هو السميع العليم» السكون في الليل و النهار هو الوقوع في ظرف هذا العالم الطبيعي الذي يدبر أمره بالليل و النهار، و يجري نظامه بغشيان النور الساكب من شمس مضيئة، و عمل التحولات النورية فيه بالقرب و البعد و الكثرة و القلة و الحضور و الغيبة و المسامتة و غيرها.
فالليل و النهار هما المهد العام يربى فيه العناصر الكلية و مواليدها تربية تسوق كل جزء من أجزائها و كل شخص من أشخاصها إلى غايته التي قدرت له، و تكملها روحا و جسما.
و كما أن للمسكن عاما و خاصا دخلا تاما في كينونة الساكن كالإنسان مثلا يسكن أرضا فيطوف بها في طلب الرزق، و يرتزق مما يخرج منها من حب و فاكهة و ما يتربى فيها من حيوان، و يشرب من مائها، و يستنشق من هوائها، و يفعل و ينفعل من كيفيات منطقتها، و ينمو جميع أجزاء جسمه على حسب تقديرها كذلك الليل و النهار لهما الدخل التام في تكون عامة ما يتكون فيهما.
و الإنسان من الأشياء الساكنة في الليل و النهار تكون بمشية الله من ائتلاف أجزاء بسيطة و مركبة على صورة خاصة يمتاز وجوده حدوثا و بقاء بحياة تقوم على شعور فكري و إرادة يتهيئان له من قوى له باطنية عاطفية تأمره بجذب المنافع و دفع المضار، و تدعوه إلى إيجاد مجتمع متشكل فيه ما نراه من تفاصيل التفاهم باللغات و التباني على اتباع السنن و القوانين و العادات في المعاشرات و المعاملات، و احترام الآراء و العقائد العامة في الحسن و القبح و العدل و الظلم و الطاعة و المعصية و الثواب و العقاب و الجزاء و العفو.
و إذا كان الله سبحانه هو الخالق لليل و النهار و ما سكن فيهما المتفرد بإيجادها فله ما سكن في الليل و النهار، و هو المالك الحق لجميع الليل و النهار و سكانهما و ما يستعقب وجودها من الحوادث و الأفعال و الأقوال، و له النظام الجاري فيها على عجيب سعته فهو السميع لأقوالنا من أصوات و إشارات، و العليم بأعمالنا و أفعالنا بما لها من صفتي الحسن و القبح، و العدل و الظلم و الإحسان و الإساءة، و ما تكتسبه النفوس من سعادة و شقاء.
و كيف يمكنه الجهل بذلك و قد نشأ الجميع في ملكه و بإذنه؟ و نحو وجود هذا النوع من الأمور أعني الحسن و القبح و العدل و الظلم و الطاعة و المعصية، و كذا اللغات الدالة على المعاني الذهنية كل ذلك أمور علمية لا تحقق لها في غير ظرف العلم، و لذلك نرى أن الفعل لا يقع منا حسنا و لا قبيحا و لا طاعة و لا معصية، و الصوت المؤلف لا يسمى كلاما إلا إذا علمنا به و قصدنا وجهه.
و كيف يمكن أن يملك شيء علمي في نفسه من حيث كونه كذلك ثم يجهله مالكه و لا يعلم به؟ أجد التأمل فيه.
و الله سبحانه هو الذي أوجد هذا العالم على عجيب سعته في أجزائه البسيطة و العنصرية و المركبة على نظام يدهش اللب، ثم خلقنا و أسكننا الليل و النهار ثم كثرنا و أجرى بيننا نظام الاجتماع الإنساني ثم هدانا إلى وضع اللغات، و اعتبار السنن و وضع الاعتبارات، و لم يزل يصاحبنا و يصاحب سائر الأسباب خطوة خطوة، و يجارينا و إياها في مسير الليل و النهار لحظة لحظة، و ساق حوادث لا نحصيها حادثة بعد حادثة.
حتى تكلم الواحد منا بكلام فوضع المعنى في قلبه بإلهامه، و أجرى اللفظ في لسانه بتعريفه، و أسمع الصوت لمخاطبه بإسماعه، و سار بمعناه إلى ذهنه بحفظه، و فهم المعنى لمفكرته بتعليمه، ثم بعثه لموافقة ما ألقاه إليه المتكلم أو صده عن ذلك بإرادة باعثة له إليه أو كراهة دافعة له عنه، و هو في جميع هذه المراحل التي تعجز عن الانعقاد عليها أنامل العد و الإحصاء قائد و سائق و هاد و حفيظ و رقيب! فكيف يسع لقائل إلا أن يقول: إنه تعالى سميع عليم، و ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم و لا خمسة إلا هو سادسهم و لا أدنى من ذلك و لا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم.
و كذا إذا عمل الواحد منا بعمل حسنة كان أو سيئة فهو مولود من أب و أم يولدانه تحت مراقبة الاختيار و الإرادة، و قد انتقل إليهما بعد ما قطع طريقا بعيدا و أمدا مديدا في أصلاب أسباب فاعله، و أرحام علل أخرى منفعلة إلى أن ينتهي بما الله أعلم به، و لم يزل سبحانه ينقله بإرادته من حجر إلى حجر، و الأرض قبضته و السماوات بيمينه حتى نزل منزل الاختيار فصاحبه منزلا بعد منزل بإذنه حتى طلع من أفق العين، و أخذ موضعه من مسكن الليل و النهار ثم لا يزال يجري فيما يتأثر منه من أجزاء الكون كأحد الأسباب الجارية، و الله سبحانه عليه شهيد و به محيط فكيف يمكن أن يغفل سبحانه عما هذا شأنه؟ أ لا يعلم من خلق و هو اللطيف الخبير.
و مما تقدم يظهر أن قوله تعالى: «و هو السميع العليم» بمنزلة النتيجة لقوله: «و له ما سكن في الليل و النهار».
و السمع و العلم و إن كانا معدودين من صفاته تعالى الذاتية التي هي عين الذات المتعالية من غير أن يتفرع على أمر غيرها لكن من العلم و كذا السمع و البصر ما هو صفة فعلية خارجة عن الذات و هي التي يتوقف ثبوتها على تحقق متعلق غير الذات المقدسة كالخلق و الرزق و الإحياء و الإماتة المتوقفة على وجود مخلوق و مرزوق و حي و ميت.
و الأشياء لما كانت بأنفسها و أعيانها مملوكة محاطة له تعالى فهي إن كانت أصواتا سمع و مسموعة له تعالى، و إن كانت أنوارا و ألوانا بصر و مبصرة له تعالى، و الجميع كائنة ما كانت علم و معلومة له تعالى، و هذا النوع من العلم من صفاته الفعلية التي تتحقق عند تحقق الفعل منه تعالى لا قبل ذلك، و لا يلزم من ثبوتها بعد ما لم تكن تغير في ذاته تعالى و تقدس لأنها لا تعدو مقام الفعل، و لا يدخل في عالم الذات فالآية في استنتاجها العلم من الملك تريد إثبات العلم الفعلي، فافهم ذلك.
و الآية أعني قوله: «و له ما سكن في الليل و النهار» إلخ، كإحدى مقدمات الحجة المبينة بالآية السابقة فإن الحجة على المعاد و إن تمت بقوله: «قل لمن ما في السموات و الأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة» لكن النظر الابتدائي الساذج ربما غفل عن كون ملكه تعالى للأشياء مستلزما لعلمه بها و سمعه بما يسمع منها كالأصوات و الأقوال.
و لذلك نبه عليه بتكرار ملك السماوات و الأرض، و تفريع السمع و العلم عليه فقال: «و له ما سكن في الليل و النهار - و هو في معنى قوله: «له ما في السماوات و الأرض - و هو السميع العليم» فكانت هذه الآية لذلك بمنزلة مقدمة متممة للحجة المسرودة في الآية السابقة.
و الآية - على أنا لم نستوف حقها و لن يستوفى - من أرق الآيات القرآنية معنى و أدقها إشارة و حجة، و أبلغها منطقا.
قوله تعالى: «قل أ غير الله أتخذ وليا فاطر السموات و الأرض و هو يطعم و لا يطعم» شروع في الاحتجاج على وحدانيته تعالى و أن لا شريك له.
و الذي يتحصل من تاريخ الوثنية و اتخاذ الأصنام و الآلهة أنهم كانوا إنما دانوا بذلك و خضعوا للآلهة لأحد أمرين: إما أنهم وجدوا أنفسهم في حاجة إلى أسباب كثيرة في إبقاء الحياة كالتغذي بالطعام و اللباس و المسكن و الأزواج و الأولاد و العشيرة و نحو ذلك، و عمدتها الطعام الذي حاجة الإنسان إليه أشد من حاجته إلى غيره بحسب النظر الساذج، و قد اعتقدوا أن لكل صنف من أصناف هذه الحوائج تعلقا بسبب هو الذي يجود لهم بالتمتع من وسيلة رفع تلك الحاجة كالسبب الذي يمطر السماء فينبت المرعى و الكلأ لدوابهم و يمنع بالخصب لأنفسهم، و السبب الذي يدبر أمر السهل و الجبل أو يلقي بالمحبة و الألفة أو إليه أمر البحر و السفائن الجارية فيه.
ثم وجدوا أن قوتهم لا تفي بالتسلط على تلك الحاجة أو الحوائج الضرورية فاضطروا إلى الخضوع إلى السبب المربوط بحاجتهم و اتخاذه إلها ثم عبادته.
و إما لأنهم وجدوا هذا الإنسان الأعزل غرضا لسهام الحوادث محصورا بمكاره و شرور عامة عظيمة لا يقاومها كالسيل و الزلزلة و الطوفان و القحط و الوباء، و ببلايا و محن أخرى جزئية لا يحصيها كالأمراض و الأوجاع و السقوط و الفقر و العقم و العدو و الحاسد و الشانىء و غير ذلك، ثم وضعوا لها أسبابا قاهرة هي المرسلة لها إليهم، و القاصمة بها ظهورهم، و المكدرة لصفوة عيشهم، و هي مخلوقات علوية كأرباب الأنواع و أرواح الكواكب و الأجرام العلوية فاتخذوها آلهة خوفا من سخطهم و عذابهم، و عبدوها ليستميلوها بالعبادة و يرضوها بالخضوع و الاستكانة فيخلصوا بذلك عن المكاره و الرزايا و يأمنوا شرورها و المضار النازلة منها إليهم.
و الآية أعني قوله: «قل أ غير الله أتخذ وليا» إلخ، و الآيات التالية لها تحتج على المشركين بقلب حجتيهم بعينهما إليهم أي تسلم أصل الحجة و تعدها حقة لكن تبين أن لازمها أن يعبد الله سبحانه وحده، و ينفى عنه كل شريك موضوع.
فقوله تعالى: «قل أ غير الله أتخذ وليا فاطر السماوات و الأرض و هو يطعم و لا يطعم» إشارة إلى الحجة من المسلك الأول، و هو مسلك الرجاء أن يعبد الإله لأنه منعم فيكون عبادته شكرا لإنعامه سببا لمزيده.
أمر سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبين لهم في صورة الاستفهام و السؤال أن الله سبحانه وحده هو الولي للنعمة التي يتنعم بها الإنسان و غيره لأنه هو الرازق الذي لا يحتاج إلى أن يرزقه غيره يطعم و لا يطعم، و الدليل عليه أنه تعالى هو الذي فطر السماوات و الأرض، و أخرجها من ظلمة العدم إلى نور الوجود، و أنعم عليها بنعمة التحقق و الثبوت، ثم أفاض عليها بنعم لا يحصيها إلا هو لإبقاء وجودها، و منها الإطعام للإنسان و غيره فإن جميع هذه النعم المعدة لبقاء وجود الإنسان و غيره، و الأسباب التي تسوق تلك النعم إلى محال الاستحقاق كل ذلك ينتهي إلى فطرة و إيجاده الأشياء و الأسباب و مسبباتها جميعا من صنعه.
فإليه سبحانه يرجع الرزق الذي من أهم مظاهره عند الإنسان الإطعام فيجب أن يعبد الله وحده لأنه هو الذي يطعمنا من غير حاجة إلى إطعام من غيره.
فظهر بما بيناه أولا: أن التعبير عن العبودية و التأله باتخاذ الولي في قوله: «أ غير الله أتخذ وليا» إنما هو لكون الحجة مسوقة من جهة إنعامه تعالى بالإطعام.
و ثانيا: أن التعلق بقوله: «فاطر السماوات و الأرض» إنما هو لبيان سبب انحصار الإطعام به تعالى كما تقدم تقريره، و ربما استفيد ذلك من التعريض الذي في قوله: «و لا يطعم» فإن فيه تعريضا بكون سائر من اتخذوهم آلهة محتاجين كعيسى و غيره إلى إطعام أو ما يجري مجراه.
و من الممكن أن يستفاد من ذكره في الحجة أنه إشارة إلى مسلك آخر في إقامة الحجة على توحيده تعالى هو أشرف من المسلكين جميعا، و محصله أن الله سبحانه هو الموجد لهذا العالم، و إلى فطرة ينتهي كل شيء فيجب الخضوع له.
و وجه كون هذا المسلك أشرف: هو أن المسلكين الآخرين و إن كانا أنتجا توحيد الإله من جهة أنه معبود لكنهما لا يخلوان مع ذلك من شيء، و هو أنهما ينتجان وجوب عبادته طمعا في النعمة أو خوفا من النقمة فالمطلوب بالذات هو جلب النعمة أو الأمن من النقمة دونه تعالى و تقدس، و أما هذا المسلك فإنه ينتج وجوب عبادة الله لأنه الله سبحانه.
و ثالثا: أن اختصاص الإطعام من بين نعمه تعالى على كثرتها بالذكر إنما العناية فيه كون الإطعام بحسب النظر الساذج أوضح حوائج الحيوان العائش و منه الإنسان.
ثم أمر سبحانه بعد تمام الحجة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يذكر لهم ما يؤيد به هذه الحجة العقلية، و هو أن الله أمره من طريق الوحي أن يجري في اتخاذ الإله على الطريق الذي يهدي إليه العقل و هو التوحيد، و نهاه صريحا أن يتخطاه إلى أن يلحق بالمشركين فقال: «قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم» ثم قال: «و لا تكونن من المشركين».
بقي هنا أمران: أحدهما: أن قوله: «أول من أسلم» إن كان المراد أول من أسلم من بينكم فهو ظاهر فقد أسلم ص قبل أمته، و إن كان المراد به أول من أسلم من غير تقييد كما هو ظاهر الإطلاق كانت أوليته في ذلك بحسب الرتبة دون الزمان.
و ثانيهما: أن نتيجة الحجة لما كانت هي العبودية و هي نوع خضوع و تسليم كان استعمال لفظة الإسلام في المقام أولى من لفظة الإيمان لما فيه من الدلالة على غرض العبادة، و هو الخضوع.
قوله تعالى: «قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم» و هذا هو المسلك الثاني من المسلكين اللذين تقدم أن المشركين تعلقوا بهما في اتخاذ الآلهة، و هو أن عبادة آلهتهم يؤمنهم من شمول سخطها و نزول عذابها.
و قد أخذ سبحانه في الحجة أخوف ما يجب أن يخاف منه من أنواع العذاب و أمره و هو عذاب الساعة التي ثقلت في السماوات و الأرض كما أخذ في الحجة الأولى أحوج ما يحتاج إليه الإنسان بحسب بادىء النظر من النعم، و هو الإطعام.
و قد قيل: «إن عصيت ربي» دون أن يقال: إن أشركت بربي إشارة إلى ما في قوله تعالى في الآية السابقة: «و لا تكونن من المشركين» من نهيه (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الشرك فأدت الآية أن من الواجب علي عقلا أن أعبد الله وحده لأومن مما أخاف من عذاب يوم عظيم، و هذا الذي دل عليه العقل دلني عليه الوحي من ربي.
و بهذا تناظر هذه الآية الآية السابقة من جهة إقامة الحجة العقلية أولا ثم تأييده بالوحي من الله سبحانه فافهم ذلك، و هذا من لطائف إيجاز القرآن الكريم فقد اكتفى في إفادة هذا المعنى على سعته بمجرد وضع قوله: «عصيت» موضع أشركت.
قوله تعالى: «من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه» إلخ، المعنى ظاهر الآية متممة للحجة المسرودة في الآية السابقة فظاهر الآية السابقة بحسب النظر البسيط إقامة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الحجة في وجوب التوحيد على نفسه بأن الله نهاه عن الشرك فيجب عليه توحيده ليؤمن عذاب الآخرة.
فيلوح لنظر المغفل غير المتدبر أن يرد عليه الحجة بأن النهي لما كان مختصا بك كما تدعيه يختص الخوف ثم وجوب التوحيد أيضا بك فلا تقتضي الحجة وجوب التوحيد و نفي الشريك على غيرك، و تصير الحجة عليك لا على غيرك.
فأفاد بقوله: «من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه» أن عذابه مشرف على الجميع محيط بالكل لا مخلص عنه إلا برحمته فعلى كل إنسان أن يخاف من عذاب يومئذ على نفسه ما يخافه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على نفسه فالحجة عامة قائمة على جميع الناس لا خاصة به (صلى الله عليه وآله وسلم).
قوله تعالى: «و إن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو» إلى آخر الآية، قد كانت الحجتان المذكورتان في الآيات السابقة أخذتا أنموذجا مما يرجوه الإنسان و هو الإطعام و أنموذجا مما يخافه و هو عذاب يوم القيامة، و تممتا بهما البيان، و لم تتعرضا لسائر أنواع الضر و أقسام الخير التي يمس الله سبحانه بهما الإنسان، و الكل من الله عز اسمه.
فالآية توضح بالتصريح أن هناك من الضر ما هو غير عذاب يوم القيامة يمس الله سبحانه به الإنسان يجب أن يتوجه إليه تعالى في كشفه، و أن من الخير ما يمس الله به الإنسان و لا راد لفضله و لا مانع يمنع من إفاضته لقدرته على كل شيء، و رجاء الخير يوجب على الإنسان أن يتخذه سبحانه إلها معبودا.
و لما أمكن أن يتوهم أن كونه تعالى يمس الإنسان بضر أو بخير إنما يقتضي أن يتخذ معبودا، و الخصم لا ينكر ذلك.
و أما قصر الألوهية و المعبودية فيه تعالى فلا لأن ما اتخذوه من الآلهة هي أسباب متوسطة و شفعاء أقوياء لها تأثيرات في الكون من شر أو خير يوجب على الإنسان أن يتقرب إليها خوفا من شرها أو رجاء لخيرها.
دفعه بأن الله سبحانه هو القاهر فوق عباده لا يفوقه منهم أحد و لا يعادله فهم أنفسهم تحت قهره، و كذا أفعالهم و آثارهم لا يعملون عملا من خير أو شر إلا بإذنه و مشيته غير مستقلين بأمر البتة و لا يملكون لأنفسهم ضرا و لا نفعا و لا غير ذلك، فما يطلع من أفق ذواتهم من أثر خيرا أو شرا ينتهي إلى أمره و مشيته و إذنه يستند إليه على ما يليق بساحة قدسه و عزته من الاستناد.
فالآيتان جميعا تتممان معنى واحدا، و هو أن ما يصيب الإنسان من خير أو شر فمن الله على ما يليق بساحته من الانتساب، فالله سبحانه هو المتوحد بالألوهية، و المتفرد بالمعبودية لا إله غيره، و لا معبود سواه.
و قد عبر عن إصابة الضر و الخير بالمس الدال على الحقارة في قوله: «إن يمسسك» «و إن يمسسك» ليدل به على أن ما يصيب الإنسان من ضر أو من خير شيء يسير مما تحمله القدرة غير المتناهية التي لا يقوم لها شيء، و لا يطيقها و لا يتحملها مخلوق محدود.
و كأن قوله تعالى في جانب الخير: «فهو على كل شيء قدير» وضع موضع نحو من قولنا: فلا مانع يمنعه، ليدل على أنه تعالى قدير على كل خير مفروض كما أنه قدير على كل ضر مفروض، و تنكشف به علة قوله: فلا كاشف له إلا هو إذ لو كشف غيره تعالى شيئا مما مس به من ضر دفع ذلك قدرته عليه، و كذلك قدرته على كل شيء تقتضي أن لا يقوى شيء على دفع ما يمس به من خير.
و تخصيص ما يمس به من ضر أو خير بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه الآية نظير التخصيص الواقع في قوله: «قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم» و يفيد قوله: «و هو القاهر فوق عباده» من التعميم نظير ما أفاد قوله: «من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه».
قوله تعالى: «و هو القاهر فوق عباده و هو الحكيم الخبير» القهر هو نوع من الغلبة، و هو أن يظهر شيء على شيء فيضطره إلى مطاوعة أثر من الغالب يخالف ما للمغلوب من الأثر طبعا أو بنحوه من الافتراض كالماء يظهر على النار فيقهرها على الخمود، و النار تقهر الماء فتبخره أو تجفف رطوبته.
و إذ كانت الأسباب الكونية إنما أظهرها الله سبحانه لتكون وسائط في حدوث الحوادث فتضع آثارها في مسبباتها، و هي كائنة ما كانت مضطرة إلى مطاوعة ما يريده الله سبحانه فيها و بها، يصدق عليها عامة أنها مقهورة لله سبحانه فالله قاهر عليها.
فالقاهر من الأسماء التي تصدق عليه تعالى كما تصدق على غيره، غير أن بين قهره تعالى و قهر غيره فرقا، و هو أن غيره تعالى من الأشياء إنما يقهر بعضها بعضا و هما مجتمعان من جهة مرتبة وجودهما و درجة كونهما بمعنى أن النار تقهر الحطب على الاحتراق و الاشتعال، و هما معا موجودان طبيعيان يقتضي أحدهما بالطبع خلاف ما يقتضيه الآخر لكن النار أقوى في تحميل أثرها على الحطب منه من النار فهي تظهر عليه في تأثيرها بأثرها فيه.
و الله سبحانه قاهر لا كقهر النار الحطب، بل هو قاهر بالتفوق و الإحاطة على الإطلاق بمعنى أنا إذا نسبنا إحراق جسم و إشعاله كالحطب مثلا إلى الله سبحانه فهو سبحانه قاهر عليه بالوجود المحدود الذي أوجده به، قاهر عليه بالخواص و الكيفيات التي أعطاها له و عبأه بها بيده، قاهر عليه بالنار التي أوقدها لإحراقه و إشعاله، و هو المالك لجميع ما للنار من ذات و أثر، قاهر عليه بقطع عطية المقاومة للحطب، و وضع الاحتراق و الاشتعال موضعه فلا مقاومة و لا تعصي و لا جموح و لا شبه ذلك قبال إرادته و مشيته لكونها من أفق أعلى.
فهو تعالى قاهر على عباده لكنه فوقهم لا كقهر شيء شيئا و هما متزاملان.
و قد صدق القرآن الكريم هذا البحث بنتيجته فذكره اسما له تعالى في موضعين من هذه السورة و هما هذه الآية و آية 61.
و قيد الاسم في كلا الموضعين بقوله: «فوق عباده» و الغالب في المحفوظ من موارد استعمال القهر هو أن يكون المغلوب من أولي العقل بخلاف الغلبة، و لذا فسره الراغب بالتذليل، و الذلة في أولي العقل أظهر، و لا يمنع ذلك من صحة صدقه في غير مورد أولي العقل بحسب الاستعمال أو بعناية.
و الله سبحانه قاهر فوق عباده يمسهم بالضر و بالخير و يذللهم لمطاوعته و قاهر فوق عباده فيما يفعلونه و يؤثرون به من أثر لأنه المالك لما ملكهم و القادر على ما عليه أقدرهم.
و لما نسب في الآيتين إليه المس بالضر و الخير، و قد ينسبان إلى غيره، ميز مقامه من مقام غيره بقوله في ذيل الآية: «و هو الحكيم الخبير» فهو الحكيم لا يفعل ما يفعل جزافا و جهلا، الخبير لا يخطىء و لا يغلط كغيره.
|