بيان
احتجاج على الوحدانية من طريق الوحي فإن وحدة الإله و انتفاء الشريك عنه و إن كانت مما يناله العقل بوجوه من النيل فلا مانع من إثباته من طريق الوحي الصريح الذي لا مرية فيه، فالمطلوب هو اليقين بأنه تعالى إله واحد لا شريك له، و إذا فرض حصوله من طريق الوحي الذي لا يداخله ريب في كونه وحيا إلهيا كالقرآن المتكىء على التحدي فلا مانع من الاستناد إليه.
قوله تعالى: «قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني و بينكم» أمر نبيه أن يسألهم عن أكبر الأشياء من حيث الشهادة، و الشهادة هي تحمل الخبر عن نوع من العيان كالإبصار و نحوه، و أداء ما تحمل كذلك بالإخبار و الإنباء، و إذ كان التحمل و الأداء - و خاصة التحمل - مما يختلف بحسب إدراك المتحملين و بحسب وضوح الخبر الذي تحمله المتحمل، و بحسب قوة المؤدى بيانا و ضعفه اختلافا فاحشا.
فليس المتحمل الذي يغلب على مزاجه السهو و النسيان أو الغفلة كالذي يحفظ ما يعيه سمعه و يقع عليه بصره، و ليس الصاحي كالسكران و لا الخبير الأخصائي بأمر كالأجنبي الأعزل.
و إذا كان الأمر على ذلك فلا يقع ريب في أن الله سبحانه هو أكبر من كل شيء شهادة فإنه هو الذي أوجد كل ما دق و جل من الأشياء، و إليه ينتهي كل أمر و خلق، و هو المحيط بكل شيء و مع كل شيء لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات و الأرض و لا أصغر من ذلك و لا أكبر لا يضل و لا ينسى.
و لكون الأمر بينا لا يقع فيه شك لم يحتج إلى إيراد الجواب في اللفظ بأن يقال: قل الله أكبر شهادة، كما قيل: «قل لمن ما في السماوات و الأرض قل لله»: الأنعام - 12 أو يقال: سيقولون الله، كما قيل: «قل لمن الأرض و من فيها إن كنتم تعلمون، سيقولون لله»: المؤمنون: 85.
على أن قوله: «قل الله شهيد بيني و بينكم» يدل عليه و يسد مسده، و ليس من البعيد أن يكون قوله «شهيد» خبرا لمبتدإ، محذوف هو الضمير العائد إلى الله، و التقدير: «قل الله هو شهيد بيني و بينكم» فتشتمل الجملة على جواب السؤال و على ما استؤنف من الكلام.
و قوله: «قل الله شهيد بيني و بينكم» على أنه يشتمل على إخباره (صلى الله عليه وآله وسلم) بشهادة الله تعالى هو بنفسه شهادة لمكان قوله: «قل» إذ أمره بأن يخبرهم بشهادته تعالى بالنبوة لا ينفك عن الشهادة بذلك، و على هذا فلا حاجة إلى التشبث بأنواع ما وقع في القرآن الكريم من شهادة الله تعالى على نبوته (صلى الله عليه وآله وسلم) و على نزول القرآن من عنده كقوله تعالى: «و الله يعلم إنك لرسوله»: المنافقون: 1 أو قوله: «لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه»: النساء: 166 و غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك تصريحا أو تلويحا بلفظ الشهادة أو بغيره.
و تقييد شهادته تعالى بقوله «بيني و بينكم» يدل على توسطه تعالى بين طرفين متخاصمين هما النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و قومه، و النبي لم ينعزل عنهم و لم يتميز منهم في جانب إلا في دعوى النبوة و الرسالة و دعوى نزول القرآن لكن نزول القرآن بالوحي قد ذكر بعد في قوله: «و أوحي إلي هذا القرآن» فالمراد بشهادته تعالى بينه و بينهم شهادته بنبوته، و يؤيده أيضا قوله في الآية التالية: «الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم» على ما سيجيء إن شاء الله.
قوله تعالى: «و أوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به و من بلغ» من مقول القول و هو معطوف على قوله: «الله شهيد» إلخ، و جعل الإنذار غاية لنزول القرآن الكريم أخذ بمسلك الخوف في الدعوة النبوية، و هو الأوقع في أفهام عامة الناس فإن مسلك الرجاء و الوعد و إن كان أحد الطريقين في الدعوة، و قد استعمله الكتاب العزيز في الجملة لكن رجاء الخير لا يبعث إلى طلبه بعثا إلزاميا و إنما يورث شوقا و رغبة بخلاف الخوف لوجوب دفع الضرر المحتمل عقلا.
و لأن دعوة الإسلام إنما هي إلى دين الفطرة، و هو مخزون مكنوز في فطرة الناس و إنما حجبهم عنه ما ابتلوا به من الشرك و المعصية مما يوجب عليهم غلبة الشقوة و نزول السخط الإلهي فالأقرب إلى الحكمة و الحزم في دعوتهم أن تبدأ بالإنذار، و لهذا كله ربما حصر شأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الإنذار كما في قوله: «إن أنت إلا نذير»: الفاطر - 23 و قوله: «و إنما أنا نذير مبين»: العنكبوت: 50.
هذا في عامة الناس و أما الخاصة من عباد الله، و هم الذين يعبدونه حبا له لا خوفا من نار و لا طمعا في جنة فإنهم يتلقون من الدعوة بالخوف و الرجاء أمرا آخر فإنهم يتلقون من النار أنها دار بعد و سخط فيخافونها لذلك، و من الجنة أنها ساحة قرب و رضوان فيشتاقون إليها لذلك.
و ظاهر قوله: «لأنذركم به و من بلغ» أنه خطاب لمشركي مكة أو لقريش أو للعرب عامة إلا أن التقابل بين ضمير الخطاب و بين من بلغ - و المراد بمن بلغ هو من لم يشافهه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالدعوة في زمن حياته أو بعده - يدل على أن المراد بالمخاطبين في قوله: «لأنذركم به» هم الذين شافههم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالدعوة ممن تقدم دعاؤه على نزول الآية أو قارنه أو تأخر عنه.
فقوله: «و أوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به و من بلغ» يدل على عموم رسالته (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقرآن لكل من سمعه منه أو سمعه من غيره إلى يوم القيامة، و إن شئت فقل: تدل الآية على كون القرآن الكريم حجة من الله و كتابا له ينطق بالحق على أهل الدنيا من لدن نزوله إلى يوم القيامة.
و قد قيل: «لأنذركم به» و لم يقل: لأنذركم بقراءته فالقرآن حجة على من سمع لفظه و عرف معناه و اهتدى إلى مقاصده، أو فسر له لفظه و قرع سمعه بمضامينه فليس من شرط كتاب مكتوب إلى قوم أن يكون بلسانهم بل أن تقوم عليهم حجته و تشملهم مضامينه، و قد دعا (صلى الله عليه وآله وسلم) بكتابه إلى مصر و الحبشة و الروم و إيران و لسانهم غير لسان القرآن، و قد كان فيمن آمن به في حياته و قبل إيمانهم سلمان الفارسي و بلال الحبشي و صهيب الرومي و عدة من اليهود و لسانهم عبري هذا كله مما لا ريب فيه.
قوله تعالى: «أ إنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد» إلى آخر الآية، لما ذكر شهادة الله و هو أكبر شهادة على رسالته و لم يرسل إلا ليدعوهم إلى دين التوحيد، و ليس لأحد بعد شهادة الله سبحانه على أن لا شريك له في ألوهيته أن يشهد أن مع الله آلهة أمر نبيه أن يسألهم سؤال متعجب منكر: هل يشهدون بتعدد الآلهة، و هذا هو الذي يدل عليه تأكيد المسئول عنه بأن و اللام، كأن النفس لا تقبل أن يشهدوا به بعد أن سمعوا شهادة الله تعالى.
ثم أمره أن يخالفهم في الشهادة فينفي عن نفسه الشهادة بما شهدوا به فقال: «قل لا أشهد» أي بما شهدتم به بقرينة المقام، ثم قال: «قل إنما هو إله واحد و إنني بريء مما تشركون» و هو شهادة على وحدانيته تعالى، و البراءة مما يدعون له من شركاء.
قوله تعالى: «الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم» و هذا إخبار عما شهد به الله سبحانه في الكتب المنزلة على أهل الكتاب، و علمه علماء أهل الكتاب مما عندهم من كتب الأنبياء من البشارة بعد البشارة بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و وصفه بما لا يعتريه شك و لا يطرأ عليه ريب.
فهم بما استحضروا من نعته (صلى الله عليه وآله وسلم) يعرفونه بعينه كما يعرفون أبناءهم، قال تعالى: «الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة و الإنجيل»: الأعراف: 157 و قال تعالى: «محمد رسول الله و الذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله و رضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة و مثلهم في الإنجيل:» الفتح: 29، و قال تعالى: «أ و لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل»: الشعراء: 197.
و لما كان بعض علمائهم يكتمون ما عندهم من بشاراته و نعوته (صلى الله عليه وآله وسلم) و يستنكفون عن الإيمان به بين الله تعالى خسرانهم في أمرهم فقال: «الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون».
و قد تقدم بعض الكلام في تفسير نظيرة الآية من سورة البقرة آية 146 و بينا هناك وجه الالتفات من الحضور إلى الغيبة و سيأتي تمام الكلام في سورة الأعراف آية 156 إن شاء الله تعالى.
بحث روائي
في تفسير البرهان، عن ابن بابويه بإسناده عن محمد بن عيسى بن عبيد قال: قال لي أبو الحسن (عليه السلام): ما تقول إذا قيل لك: أخبرني عن الله عز و جل أ شيء أم لا شيء؟ قال: قلت: قد أثبت الله عز و جل نفسه شيئا حيث يقول: «قل أي شيء أكبر شهادة - قل الله شهيد بيني و بينكم» و أقول: إنه شيء لا كالأشياء إذ في نفي الشيئية عنه نفيه و إبطاله: قال لي: صدقت و أحسنت.
قال الرضا (عليه السلام): للناس في التوحيد ثلاثة مذاهب: نفي، و تشبيه، و إثبات بغير تشبيه فمذهب النفي لا يجوز، و مذهب التشبيه لا يجوز لأن الله تبارك و تعالى لا يشبهه شيء، و السبيل في الطريقة الثالثة إثبات بلا تشبيه.
أقول: المراد بمذهب النفي نفي معاني الصفات عنه تعالى كما ذهبت إليه المعتزلة، و في معناه إرجاع الصفات الثبوتية إلى نفي ما يقابلها كالقول بأن معنى القادر أنه ليس بعاجز، و معنى العالم أنه ليس بجاهل إلا أن يرجع إلى ما ذكره (عليه السلام) من المذهب الثالث.
و المراد بمذهب التشبيه أن يشبهه تعالى بغيره - و ليس كمثله شيء - أي أن يثبت له من الصفة معناه المحدود الذي فينا المتميز من غيره من الصفات بأن يكون قدرته كقدرتنا و علمه كعلمنا، و هكذا، و لو كان ما له من الصفة كصفتنا احتاج كاحتياجنا فلم يكن واجبا تعالى عن ذلك.
و المراد بمذهب الإثبات من غير تشبيه أن يثبت له من الصفة أصل معناه و تنفى عنه خصوصيته التي قارنته في الممكنات المخلوقة أي تثبت الصفة و ينفي الحد.
و في تفسير القمي،: في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): «قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني و بينكم» و ذلك أن مشركي أهل مكة قالوا: يا محمد ما وجد الله رسولا أرسله غيرك؟ ما نرى أحدا يصدقك بالذي تقول ذلك في أول ما دعاهم و هم يومئذ بمكة قالوا: و لقد سألنا عنك اليهود و النصارى فزعموا أنه ليس لك ذكر عندهم، فأتنا بمن يشهد أنك رسول الله، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الله شهيد بيني و بينكم.
و في تفسير العياشي، عن بكير عن محمد عن أبي جعفر (عليه السلام): في قول الله: «لأنذركم به و من بلغ» قال: علي (عليه السلام) ممن بلغ.
أقول: ظاهره أن «من بلغ» معطوف على ضمير «كم»، و لقد ورد في بعض الروايات أن المراد بمن بلغ هو الإمام، و لازمه عطف «من بلغ» على فاعل «لأنذركم» المقدر، و ظاهر الآية هو الأول.
و في تفسير البرهان، عن ابن بابويه بإسناده عن يحيى بن عمران الحلبي عن أبيه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سئل عن قول الله عز و جل: «و أوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به و من بلغ» قال: بكل لسان.
أقول: قد مر وجه استفادته من الآية.
و في تفسير المنار،: أخرج أبو الشيخ عن أبي بن كعب قال: أتي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأسارى فقال لهم: هل دعيتم إلى الإسلام؟ قالوا: لا، فخلى سبيلهم ثم قرأ: «و أوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به و من بلغ» ثم قال: خلوا سبيلهم حتى يأتوا مأمنهم من أجل أنهم لم يدعوا.
و في تفسير القمي: أن عمر بن الخطاب قال لعبد الله بن سلام: هل تعرفون محمدا في كتابكم؟ قال: نعم و الله نعرفه بالنعت الذي نعته الله لنا إذ رأيناه فيكم كما يعرف أحدنا ابنه إذا رآه مع الغلمان. و الذي يحلف به ابن سلام: لأنا بمحمد هذا أشد معرفة مني بابني.
|