بيان
الآيات في نفسها تقبل الاتصال و الاتساق بحسب النظم، و لا تقبل الاتصال بقوله تعالى: «و لو أنهم أقاموا التوراة و الإنجيل» الآية مع الغض عن قوله تعالى: «يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك» الآية و أما ارتباط قوله تعالى: «يا أيها الرسول بلغ» الآية فقد عرفت الكلام فيه.
و الأشبه أن يكون هذه الآيات جارية على سياق الآيات السابقة من أوائل السورة إلى هنا أعني ارتباط مضامين الآيات آخذة من قوله تعالى: «و لقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل و بعثنا منهم اثني عشر نقيبا»: الآية - 12 من السورة إلى آخر هذه الآيات المبحوث عنها باستثناء نزرة مما تتخللها كآية الولاية و آية التبليغ و غيرهما مما تقدم البحث عنه، و مثله الكلام في اتصال آيات آخر السورة بهذه الآيات فإنها جميعا يجمعها أنها كلام يتعلق بشأن أهل الكتاب.
قوله تعالى: «قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة و الإنجيل» إلى آخر الآية، الإنسان يجد من نفسه خلال أعماله أنه إذا أراد إعمال قوة و شدة فيما يحتاج إلى ذلك، وجب أن يعتمد على مستوى يستوي عليه أو يتصل به كمن أراد أن يجذب أو يدفع أو يحمل أو يقيم شيئا ثقيلا فإنه يثبت قدميه على الأرض أولا ثم يصنع ما شاء لما يعلم أن لو لا ذلك لم يتيسر له ما يريد، و قد بحث عنه في العلوم المربوطة به.
و إذا أجرينا هذا المعنى في الأمور المعنوية كأفعال الإنسان الروحية أو ما يتعلق من أفعال الجوارح بالأمور النفسية كان ذلك منتجا أن صدور مهام الأفعال و عظائم الأعمال يتوقف على أس معنوي و مبنى قوى نفسي كتوقف جلائل الأمور على الصبر و الثبات و علو الهمة و قوة العزيمة و توقف النجاح في العبودية على حق التقوى و الورع عن محارم الله.
و من هنا يظهر أن قوله تعالى: «لستم على شيء» كناية عن عدم اعتمادهم على شيء يثبت عليه أقدامهم فيقدروا بذلك على إقامة التوراة و الإنجيل و ما أنزل إليهم من ربهم تلويحا إلى أن دين الله و حكمه لها من الثقل ما لا يتيسر حمله للإنسان حتى يعتمد على أساس ثابت و لا يمكنه إقامته بمجرد هوى من نفسه كما يشير تعالى إلى ذلك بالنسبة إلى القرآن الكريم بقوله: «إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا»: «المزمل: 5»، و قوله: «لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله و تلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون»: «الحشر: 21»، و قوله: «إنا عرضنا الأمانة على السماوات و الأرض و الجبال فأبين أن يحملنها و أشفقن منها» الآية: «الأحزاب: 72».
و قال في أمر التوراة خطابا لموسى (عليه السلام): «فخذها بقوة و أمر قومك يأخذوا بأحسنها»: الأعراف: 154»، و قال خطابا لبني إسرائيل: «خذوا ما آتيناكم بقوة»: «البقرة: 63» و قال خطابا ليحيى (عليه السلام): «يا يحيى خذ الكتاب بقوة»: مريم: 12».
فيعود المعنى إلى أنكم فاقدوا العماد الذي يجب عليكم أن تعتمدوا عليه في إقامة دين الله الذي أنزل إليكم في كتبه و هو التقوى و الإنابة إلى الله بالرجوع إليه مرة بعد أخرى و الاتصال به و الإيواء إلى ركنه بل مستكبرون عن طاعته و متعدون حدوده.
و يظهر هذا المعنى من قوله تعالى خطابا لنبيه و المؤمنين: «شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا و الذي أوحينا إليك و ما وصينا به إبراهيم و موسى و عيسى» فجمع الدين كله فيما ذكره، ثم قال: «أن أقيموا الدين و لا تتفرقوا فيه» فبين أن ذلك كله يرجع إلى إقامة الدين كلمة واحدة من غير تفرق ثم قال: «كبر على المشركين ما تدعوهم إليه» و ذلك لكبر الاتفاق و الاستقامة في اتباع الدين عليهم، ثم قال: «الله يجتبي إليه من يشاء و يهدي إليه من ينيب» فأنبأ أن إقامة الدين لا يتيسر إلا بهداية من الله، و لا يصلح لها إلا المتصف بالإنابة التي هي الاتصال بالله و عدم الانقطاع عنه بالرجوع إليه مرة بعد أخرى، ثم قال: «و ما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم» فذكر أن السبب في تفرقهم و عدم إقامتهم للدين هو بغيهم و تعديهم عن الوسط العدل المضروب لهم «الشورى: 14».
و قال أيضا في نظيرتها من الآيات: «فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم و لكن أكثر الناس لا يعلمون، منيبين إليه و اتقوه و أقيموا الصلاة و لا تكونوا من المشركين، من الذين فرقوا دينهم و كانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون»: «الروم: 32» فذكر فيها أيضا أن الوسيلة إلى إقامة دين الفطرة الإنابة إلى الله، و حفظ الاتصال بحضرته، و عدم الانقطاع عن سببه.
و قد أشار إلى هذه الحقيقة في الآيات السابقة على هذه الآية المبحوث عنها أيضا حيث ذكر أن الله لعن اليهود و غضب عليهم لتعديهم حدوده فألقى بينهم العداوة و البغضاء، و ذكر هذا المعنى في غير هذا المورد في خصوص النصارى بقوله: «فأغرينا بينهم العداوة و البغضاء إلى يوم القيامة»: «المائدة: 14».
و قد حذر الله سبحانه المسلمين عن مثل هذه المصيبة المؤلمة التي سيحلها على أهل الكتاب من اليهود و النصارى، و أنبأهم أنهم لا يتيسر و لن يتيسر لهم إقامة التوراة و الإنجيل و ما أنزل إليهم من ربهم، و قد صدق جريان التاريخ ما أخبر به الكتاب من تشتت المذاهب فيهم و إلقاء العداوة و البغضاء بينهم، فحذر الأمة الإسلامية أن يردوا موردهم في الانقطاع عن ربهم، و عدم الإنابة إليه في قوله: «و أقم وجهك للدين حنيفا»: «الروم: 30» في عدة آيات من السورة.
و قد تقدم البحث عن بعض الآيات الملوحة إلى ذلك في ما تقدم من أجزاء الكتاب و سيأتي الكلام على بعض آخر منها إن شاء الله تعالى.
و أما قوله تعالى: «و ليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا و كفرا» فقد تقدم البحث عن معناه، و قوله: «فلا تأس على القوم الكافرين» تسلية منه تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) في صورة النهي عن الأسى.
قوله تعالى: «إن الذين آمنوا و الذين هادوا و الصابئون و النصارى» الآية ظاهرها أن الصابئون عطف على «الذين آمنوا» بحسب موضعه و جماعة من النحويين يمنعون العطف على اسم إن بالرفع قبل مضي الخبر، و الآية حجة عليهم.
و الآية في مقام بيان أن لا عبرة في باب السعادة بالأسماء و الألقاب كتسمي جمع بالمؤمنين و فرقة بالذين هادوا، و طائفة بالصابئين و آخرين بالنصارى، و إنما العبرة بالإيمان بالله و اليوم الآخر و العمل الصالح، و قد تقدم البحث عن معنى الآية في تفسير سورة البقرة الآية 62 في الجزء الأول من الكتاب.
قوله تعالى: «لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل و أرسلنا إليهم رسلا» إلى آخر الآية هذه الآية و ما بعدها إلى عدة آيات تتعرض لحال أهل الكتاب كالحجة على ما يشتمل عليه قوله تعالى: «قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة و الإنجيل» إلخ، فإن هذه الجرائم و الآثام لا تدع للإنسان اتصالا بربه حتى يقيم كتب الله معتمدا عليه.
و يحتمل أن تكون الآيات مرتبطة بقوله: «إن الذين آمنوا و الذين هادوا» إلخ، فيكون تصديقا بأن الأسماء و الألقاب لا تنفع شيئا في مرحلة السعادة إذ لو نفعت لصدت هؤلاء عن قتل الأنبياء و تكذيبهم و الهلاك بمهلكات الفتن و موبقات الذنوب.
و يمكن أن يكون هذه الآيات كالمبينة لقوله: «إن الذين آمنوا و الذين هادوا» إلخ، و هو كالمبين لقوله: «يا أهل الكتاب لستم على شيء الآية و المعنى ظاهر.
و قوله: «فريقا كذبوا و فريقا يقتلون» الظاهر أن كلمتي «فريقا» في الموضعين مفعولان للفعلين بعدهما قدما عليهما للعناية بأمرهما، و التقدير: كذبوا فريقا و يقتلون فريقا، و المجموع جواب قوله: «كلما جاءهم» إلخ، و المعنى نحو من قولنا: كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم أساءوا مواجهته و إجابته و جعلوا الرسل الآتين فريقين: فريقا كذبوا و فريقا يقتلون.
قال في المجمع،: فإن قيل: لم عطف المستقبل على الماضي يعني في قوله: «فريقا كذبوا و فريقا يقتلون»؟ فجوابه: ليدل على أن ذلك من شأنهم ففيه معنى كذبوا و قتلوا و يكذبون و يقتلون مع أن قوله: «يقتلون» فأصله يجب أن يكون موافقا لرءوس الآي، انتهى.
قوله تعالى: «و حسبوا أن لا تكون فتنة فعموا و صموا» إلخ، متمم للكلام في الآية السابقة، و الحسبان هو الظن، و الفتنة هي المحنة التي تغر الإنسان أو هي أعم من كل شر و بلية، و العمى هو عدم إبصار الحق و عدم تمييز الخير من الشر، و الصمم عدم سماع العظة و عدم الإعباء بالنصيحة، و هذا العمى و الصمم معلولا حسبانهم أن لا تكون فتنة، و الظاهر أن حسبانهم ذلك معلول ما قدروا لأنفسهم من الكرامة بكونهم من شعب إسرائيل و أنهم أبناء الله و أحباؤه فلا يمسهم السوء و إن فعلوا ما فعلوا و ارتكبوا ما ارتكبوا.
فمعنى الآية - و الله أعلم - أنهم لمكان ما اعتقدوا لأنفسهم من كرامة التهود ظنوا أن لا يصيبهم سوء أو لا يفتنون بما فعلوا فأعمى ذلك الظن و الحسبان أبصارهم عن إبصار الحق، و أصم ذلك آذانهم عن سماع ما ينفعهم من دعوة أنبيائهم.
و هذا مما يرجح ما احتملناه أن الآيات كالحجة المبينة لقوله: «إن الذين آمنوا و الذين هادوا» الآية فمحصل المعنى أن الأسماء و الألقاب لا تنفع أحدا شيئا فهؤلاء اليهود لم ينفعهم ما قدروا لأنفسهم من الكرامة بالتسمي بل أعماهم و أوردهم مورد الهلكة و الفتنة لما كذبوا أنبياء الله و قتلوهم.
قوله تعالى: «ثم تاب الله عليهم ثم عموا و صموا كثير منهم و الله بصير بما يعملون» التوبة من الله على عباده رجوعه تعالى بالرحمة إليهم، و هذا يدل على أن الله سبحانه قد كان بعدهم من رحمته و عنايته و لذلك أخذهم الحسبان المذكور و لزمهم العمى و الصمم، لكن الله سبحانه رجع إليهم ثانية بالتوبة فرفع هذا الحسبان عن قلوبهم، و العمى و الصمم عن أبصارهم و آذانهم، فعرفوا أنفسهم بأنهم عباد لا كرامة لهم على الله إلا بالتقوى، و أبصروا الحق و سمعوا عظة الله لهم بلسان أنبيائه فتبين لهم أن التسمي لا ينفع شيئا.
ثم عموا و صموا كثير منهم، و إسناد العمى و الصمم إلى جمعهم أولا ثم إلى كثير منهم - بإتيان كثير منهم بدلا من واو الجمع، أخذ بالنصفة في الكلام بالدلالة على أن إسناد العمى و الصمم إلى جمعهم من قبيل إسناد حكم البعض إلى الكل، و الواقع أن المتصف بهاتين الصفتين كثير منهم لا كلهم أولا، و إيماء إلى أن العمى و الصمم المذكورين أولا شملا جميعهم على ما يدل عليه المقابلة ثانيا، و أن التوبة الإلهية لم يبطل أثرها و لم تذهب سدى بالمرة بل نجا بالتوبة بعضهم فلم يأخذهم العمى و الصمم اللاحقان أخيرا ثالثا.
ثم ختم تعالى الآية بقوله: «و الله بصير بما يعملون» للدلالة على أن الله تعالى لا يغفله شيء، فغيره تعالى إذا أكرم قوما بكرامة ضرب ذلك على بصره بحجاب يمنعه أن يرى منهم السوء و المكروه، و ليس الله سبحانه على هذا النعت بل هو البصير لا يحجبه شيء عن شيء.
قوله تعالى: «لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم» و هذا كالبيان لكون النصارى لم تنفعهم النصرانية و الانتساب إلى المسيح (عليه السلام) عن تعلق الكفر بهم إذ أشركوا بالله و لم يؤمنوا به حق إيمانه حيث قالوا: إن الله هو المسيح بن مريم.
و النصارى و إن اختلفوا في كيفية اشتمال المسيح بن مريم على جوهرة الألوهية بين قائل باشتقاق أقنوم المسيح و هو العلم من أقنوم الرب تعالى و هو الحياة، و ذلك الأبوة و البنوة، و قائل بأنه تعالى صار هو المسيح على نحو الانقلاب، و قائل بأنه حل فيه كما تقدم بيان ذلك تفصيلا في الكلام على عيسى بن مريم (عليهما السلام) في تفسير سورة آل عمران في الجزء الثالث من الكتاب.
لكن الأقوال الثلاثة جميعا تقبل الانطباق على هذه الكلمة أن الله هو المسيح بن مريم فالظاهر أن المراد بالذين تفوهوا بهذه الكلمة جميع النصارى الغالين في المسيح (عليه السلام) لا خصوص القائلين منهم بالانقلاب.
و توصيف المسيح بابن مريم لا يخلو من دلالة أو إشعار بسبب كفرهم و هو نسبة الألوهية إلى إنسان ابن إنسان مخلوقين من تراب، و أين التراب و رب الأرباب؟!.
قوله تعالى: «و قال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي و ربكم» إلى آخر الآية احتجاج على كفرهم و بطلان قولهم بقول المسيح (عليه السلام) نفسه فإن قوله (عليه السلام): «اعبدوا الله ربي و ربكم» يدل على أنه عبد مربوب مثلهم، و قوله: «إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة» يدل على أن من يجعل لله شريكا في ألوهيته فهو مشرك كافر محرم عليه الجنة.
و في قوله تعالى حكاية عنه (عليه السلام): «فقد حرم الله عليه الجنة و مأواه النار و ما للظالمين من أنصار» عناية بإبطال ما ينسبونه إلى المسيح من حديث التفدية، و أنه (عليه السلام) باختياره الصلب فدى بنفسه عنهم فهم مغفور لهم مرفوع عنهم التكاليف الإلهية و مصيرهم إلى الجنة و لا يمسون نارا كما تقدم نقل ذلك عنهم في تفسير سورة آل عمران في قصة عيسى (عليه السلام) فقصة التفدية و الصلب إنما سيقت لهذا الغرض.
و ما تحكيه الآية من قوله (عليه السلام) موجود في متفرقات الأبواب من الأناجيل كالأمر بالتوحيد، و إبطال عبادة المشرك، و الحكم بخلود الظالمين في النار.
قوله تعالى: «لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة» أي أحد الثلاثة: الأب و الابن و الروح، أي هو ينطبق على كل واحد من الثلاثة، و هذا لازم قولهم: إن الأب إله، و الابن إله، و الروح إله، و هو ثلاثة، و هو واحد يضاهئون بذلك نظير قولنا: إن زيد بن عمرو إنسان، فهناك أمور ثلاثة هي: زيد و ابن عمرو و الإنسان، و هناك أمر واحد و هو المنعوت بهذه النعوت، و قد غفلوا عن أن هذه الكثرة إن كانت حقيقية غير اعتبارية أوجبت الكثرة في المنعوت حقيقة، و أن المنعوت إن كان واحدا حقيقة أوجب ذلك أن تكون الكثرة اعتبارية غير حقيقية فالجمع بين هذه الكثرة العددية و الوحدة العددية في زيد المنعوت بحسب الحقيقة مما يستنكف العقل عن تعقله.
و لذا ربما ذكر بعض الدعاة من النصارى أن مسألة التثليث من المسائل المأثورة من مذاهب الأسلاف التي لا تقبل الحل بحسب الموازين العلمية، و لم يتنبه أن عليه أن يطالب الدليل على كل دعوى يقرع سمعه سواء كان من دعاوي الأسلاف أو من دعاوي الأخلاف.
قوله تعالى: «و ما من إله إلا إله واحد» إلى آخر الآية رد منه تعالى لقولهم: «إن الله ثالث ثلاثة» بأن الله سبحانه لا يقبل بذاته المتعالية الكثرة بوجه من الوجوه فهو تعالى في ذاته واحد، و إذا اتصف بصفاته الكريمة و أسمائه الحسنى لم يزد ذلك على ذاته الواحدة شيئا و لا الصفة إذا أضيفت إلى الصفة أورث ذلك كثرة و تعددا فهو تعالى أحدي الذات لا ينقسم لا في خارج و لا في وهم و لا في عقل.
فليس الله سبحانه بحيث يتجزأ في ذاته إلى شيء و شيء قط، و لا أن ذاته بحيث يجوز أن يضاف إليه شيء فيصير اثنين أو أكثر، كيف؟ و هو تعالى مع هذا الشيء الذي تراد إضافته إليه تعالى في وهم أو فرض أو خارج.
فهو تعالى واحد في ذاته لكن لا بالوحدة العددية التي لسائر الأشياء المتكون منها الكثرات، و لا منعوت بكثرة في ذات أو اسم، أو صفة، كيف؟ و هذه الوحدة العددية و الكثرة المتألفة منها كلتاهما من آثار صنعه و إيجاده فكيف يتصف بما هو من صنعه؟.
و في قوله تعالى: «و ما من إله إلا إله واحد» من التأكيد في إثبات التوحيد ما ليس في غيره حيث سيق الكلام بنحو النفي و الاستثناء، ثم أدخل «من» على النفي لإفادة تأكيد الاستغراق، ثم جيء بالمستثنى و هو قوله: «إله واحد» بالتنكير المفيد للتنويع و لو أورد معرفة كقولنا «إلا الإله الواحد» لم يفد ما يرام من حقيقة التوحيد.
فالمعنى: «ليس في الوجود شيء من جنس الإله أصلا إلا إله واحد نوعا من الوحدة لا يقبل التعدد أصلا لا تعدد الذات و لا تعدد الصفات، لا خارجا و لا فرضا، و لو قيل: و ما من إله إلا الله الواحد لم يدفع به قول النصارى إن الله ثالث ثلاثة فإنهم لا ينكرون الوحدة فيه تعالى، و إنما يقولون: إنه ذات واحدة لها تعين بصفاتها الثلاث، و هي واحدة في عين أنها كثيرة حقيقة.
و لا يندفع ما احتملوه من المعنى إلا بإثبات وحدة لا تتألف منه كثرة أصلا، و هو الذي يتوخاه القرآن الكريم بقوله: «و ما من إله إلا إله واحد».
و هذا من لطائف المعاني التي يلوح إليها الكتاب الإلهي في حقيقة معنى التوحيد و سنغور في البحث المستوفى عنه في بحث قرآني خاص ثم في بحث عقلي و آخر نقلي إيفاء لحقه.
قوله تعالى: «و إن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم» تهديد لهم بالعذاب الأليم الأخروي الذي هو ظاهر الآية الكريمة.
و لما كان القول بالتثليث الذي تتضمنه كلمة: «إن الله ثالث ثلاثة» ليس في وسع عقول عامة الناس أن تتعقله فأغلب النصارى يتلقونه قولا مذهبيا مسلما بلفظة من غير أن يعقلوا معناه، و لا أن يطمعوا في تعقله كما ليس في وسع العقل السليم أن يعقله عقلا صحيحا، و إنما يتعقل كتعقل الفروض المحالة كالإنسان اللاإنسان، و العدد الذي ليس بواحد و لا كثير و لا زوج و لا فرد فلذلك تتسلمه العامة تسلما من غير بحث عن معناه، و إنما يعتقدون في البنوة و الأبوة شبه معنى التشريف فهؤلاء في الحقيقة ليسوا من أهل التثليث، و إنما يمضغون الكلمة مضغا، و ينتمون إليها انتماء بخلاف غير العامة منهم و هم الذين ينسب الله سبحانه إليهم اختلاف المذاهب و يقرر أن ذلك ببغيهم كما قال تعالى: «أن أقيموا الدين و لا تتفرقوا فيه - إلى أن قال: - و ما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم»: «الشورى: 14».
فالكفر الحقيقي الذي لا ينتهي إلى استضعاف - و هو الذي فيه إنكار التوحيد و التكذيب بآيات الله - إنما يتم في بعضهم دون كلهم، و إنما أوعد الله بالنار الخالد الذين كفروا و كذبوا بآيات الله، قال: «و الذين كفروا و كذبوا بآيات الله أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون»: «البقرة: 39» إلى غير ذلك من الآيات، و قد مر الكلام في ذلك في تفسير قوله تعالى: «إلا المستضعفين» الآية: «النساء: 98».
و لعل هذا هو السر في التبعيض الظاهر من قوله: «ليمسن الذين كفروا منهم» أو أن المراد به الإشارة إلى أن من النصارى من لا يقول بالتثليث، و لا يعتقد في المسيح إلا أنه عبد الله و رسوله، كما كانت على ذلك مسيحيوا الحبشة و غيرها على ما ضبطه التاريخ فالمعنى: لئن لم ينته النصارى عما يقولون نسبة قول بعض الجماعة إلى جميعهم ليمسن الذين كفروا منهم - و هم القائلون بالتثليث منهم - عذاب أليم.
و ربما وجهوا الكلام أعني قوله: «ليمسن الذين كفروا منهم» بأنه من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر، و الأصل: ليمسنهم انتهى، و إنما عدل إلى وضع الموصول و صلته مكانه ليدل على أن ذلك القول كفر بالله، و أن الكفر سبب العذاب الذي توعدهم به.
و هذا وجه لا بأس به لو لا أن الآية مصدرة بقوله: «لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة» و نظيره في البعد قول بعض آخر: إن «من» في قوله «منهم» بيانية فإنه قول من غير دليل.
قوله تعالى: «أ فلا يتوبون إلى الله و يستغفرونه و الله غفور رحيم» تحضيض على التوبة و الاستغفار، و تذكير بمغفرة الله و رحمته، أو إنكار أو توبيخ.
قوله تعالى: «ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل و أمه صديقة كانا يأكلان الطعام» رد لقولهم: «إن الله ثالث ثلاثة» أو لقولهم هذا و قولهم المحكي في الآية السابقة: «إن الله هو المسيح بن مريم» جميعا، و محصله اشتمال المسيح على جوهرة الألوهية، بأن المسيح لا يفارق سائر رسل الله الذين توفاهم الله من قبله كانوا بشرا مرسلين من غير أن يكونوا أربابا من دون الله سبحانه، و كذلك أمه مريم كانت صديقة تصدق بآيات الله تعالى و هي بشر، و قد كان هو و أمه جميعا يأكلان الطعام، و أكل الطعام مع ما يتعقبه مبني على أساس الحاجة التي هو أول أمارة من أمارات الإمكان و المصنوعية فقد كان المسيح (عليه السلام) ممكنا متولدا من ممكن، و عبدا و رسولا مخلوقا من أمه كانا يعبدان الله، و يجريان في سبيل الحاجة و الافتقار من دون أن يكون ربا.
و ما بيد القوم من كتب الإنجيل معترفة بذلك تصرح بكون مريم فتاة كانت تؤمن بالله و تعبده، و تصرح بأن عيسى تولد منها كالإنسان من الإنسان، و تصرح بأن عيسى كان رسولا من الله إلى الناس كسائر الرسل و تصرح بأن عيسى و أمه مريم كانا يأكلان الطعام.
فهذه أمور صرحت بها الأناجيل، و هي حجج على كونه (عليه السلام) عبدا رسولا.
و يمكن أن تكون الآية مسوقة لنفي ألوهية المسيح و أمه كليهما على ما يظهر من قوله تعالى: «أ أنت قلت للناس اتخذوني و أمي إلهين من دون الله»: «المائدة: 161» أنه كان هناك من يقول بألوهيتها كالمسيح أو أن المراد به اتخاذها إلها كما ينسب إلى أهل الكتاب أنهم اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون الله، و ذلك بالخضوع لها و لهم بما لا يخضع لبشر بمثله.
و كيف كان فالآية على هذا التقدير تنفي عن المسيح و أمه معا الألوهية بأن المسيح كان رسولا كسائر الرسل، و أمه كانت صديقة، و هما معا كانا يأكلان الطعام، و ذلك كله ينافي الألوهية.
و في قوله تعالى: «قد خلت من قبله الرسل» حيث وصف الرسل بالخلو من قبله، و هو الموت تأكيد للحجة بكونه بشرا يجوز عليه الموت و الحياة كما جاز على الرسل من قبله.
قوله تعالى: «انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون» الخطاب للنبي، (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو في مقام التعجيب أي تعجب من كيفية بياننا لهم الآيات، و هو أوضح بيان لأظهر آية في بطلان دعواهم ألوهية المسيح، و كيفية صرفهم عن تعقل هذه الآيات فإلى أي غاية يصرفون عنها، و لا تلتفت إلى نتيجتها - و هي بطلان دعواهم - عقولهم؟.
قوله تعالى: «قل أ تعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا و لا نفعا و الله هو السميع العليم» كان الخضوع لأمر الربوبية إنما انتشر بين البشر في أقدم عهوده، و خاصة بين العامة منهم - و عامتهم كانوا يعبدون الأصنام - طمعا في أن يدفع الرب عنهم الشر و يوصل إليهم النفع كما يتحصل من الأبحاث التاريخية، و أما عبادة الله لأنه الله عز اسمه فلم يكن يعدو الخواص منهم كالأنبياء و الربانيين من أممهم.
فأمر الله سبحانه رسوله أن يخاطبهم خطاب البشر الساذج الجاري على ما تلهمه فطرته الساذجة في عبادة الله كما خاطب الوثنيين و عباد الأصنام بذلك فيذكرهم أن الذي يضطر الإنسان بعبادة الرب هو أنه يرى أزمة الخير و الشر و النفع و الضر بيده فيعبده لأنه يملك الضر و النفع طمعا في أن يدفع عنه الضر و يوصل إليه الخير لعبادته له.
و كل ما هو دون الله تعالى لا يملك شيئا من ضر و لا نفع لأنه مملوك لله محضا مسلوب عنه القدرة في نفسه فكيف يسوغ تخصيصه بالعبادة، و إشراكه مع ربه الذي هو المالك له و لغيره، و قد كان من الواجب أن يخص هو تعالى بالعبادة، و لا يتعدى عنه إلى غيره لأنه هو الذي يختص به السمع و الإجابة فيسمع و يجيب المضطر إذ دعاه، و هو الذي يعلم حوائج عباده و لا يغفل عنها و لا يغلط فيها بخلاف غيره تعالى فإنه إنما يملك ما ملكه الله، و يقوى على ما قواه الله سبحانه.
فقد تبين بهذا البيان: أولا: أن الحجة التي تشتمل عليها هذه الآية غير الحجة التي تشتمل عليها الآية السابقة و إن توقفتا معا على مقدمة مشتركة، و هي كون المسيح و أمه ممكنين محتاجين، فالآية السابقة حجتها أن المسيح و أمه كانا بشرين محتاجين عبدين مطيعين لله سبحانه، و من كان حاله هذا الحال لم يصح أن يكون إلها معبودا، و حجة هذه الآية: أن المسيح ممكن محتاج مملوك بنفسه لا يملك ضرا و لا نفعا، و من كان حاله هذا الحال لم يستقم ألوهيته و عبادته من دون الله.
و ثانيا: أن الحجة مأخوذة مما يدركه الفهم البسيط و العقل الساذج من جهة غرض الإنسان البسيط في عبادته فإنه إنما يتخذ ربا و يعبده ليدفع عنه الضر و يجلب إليه النفع، و هذا إنما يملكه الله تعالى دون غيره، فلا غرض يتعلق بعبادة غير الله فمن الواجب أن يرفض عبادته.
و ثالثا: أن قوله: «ما لا يملك لكم ضرا و لا نفعا» إنما أخذت فيه لفظة «ما» دون لفظة «من» مع المسيح من أولي العقل لأن الحجة بعينها هي التي تقام على الوثنيين و عبدة الأصنام التي لا شعور لها، و لا دخل في كون المسيح (عليه السلام) من أولي العقل في تمام الحجة فهي تامة في كل معبود مفروض دون الله سبحانه.
على أن غيره تعالى و إن كان من أولي العقل و الشعور لا يملكون شيئا من العقل و الشعور من عند أنفسهم كسائر ما ينسب إليهم من شئون وجودهم قال تعالى: «إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين، أ لهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون»: «الأعراف: 159».
و كذلك تقديم الضر على النفع في قوله: «ضرا و لا نفعا» للجري على وفق ما تدركه و تدعوا إليه الفطرة الساذجة كما مر، فإن الإنسان بحسب الطبع يرى ما تلبس به من النعم الموجودة عنده ما دامت عنده مملوكة لنفسه لا تلتفت نفسه إلى إمكان فقدها و لا تتصور ألمه عند فقدها بخلاف المضار التي يجدها بالفعل، و النعم التي يفتقدها و يجد ألم فقدها، فإن الفطرة تنبهها إلى الالتجاء إلى رب يدفع عنها الضر و الضير، و يجلب إليها النعمة المسلوبة كما قال تعالى: «و إذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه»: «يونس: 12»، و قال تعالى: «و لئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي»: «حم السجدة: 50»، و قال تعالى: «و إذا أنعمنا على الإنسان أعرض و نأى بجانبه و إذا مسه الشر فذو دعاء عريض»: «حم السجدة: 51».
فتحصل أن مس الضر أبعث للإنسان إلى الخضوع للرب و عبادته من وجدان النفع، و لذلك قدم الله سبحانه الضر على النفع في قوله: «ما لا يملك لكم ضرا و لا نفعا» و كذا في سائر الموارد التي تماثله كقوله: «اتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا و هم يخلقون و لا يملكون لأنفسهم ضرا و لا نفعا و لا يملكون موتا و لا حياة و لا نشورا»: «الفرقان: 3».
و رابعا: أن مجموع الآية: «أ تعبدون من دون الله» إلى آخرها حجة على وجوب قصر العبادة في الله سبحانه من دون إشراك غيره معه و هي منحلة إلى حجتين ملخصهما: أن اتخاذ الإله و عبادة الرب إنما هو لغرض دفع الضر و جلب النفع فيجب أن يكون الإله المعبود مالكا لذلك و لا يجوز عبادة من لا يملك شيئا، و الله سبحانه هو السميع المجيب للدعوة العليم بكنه الحاجة من غير جهل دون غيره فوجب عبادته من غير إشراك غيره.
قوله تعالى: «قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق» خطاب آخر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأمره أن يدعو أهل الكتاب إلى عدم الغلو في دينهم، و أهل الكتاب و خاصة النصارى مبتلون بذلك، و «الغالي» المتجاوز عن الحد بالإفراط، و يقابله «القالي» في طرف التفريط.
و دين الله الذي يفسره كتبه المنزلة يأمر بالتوحيد و نفي الشريك و ينهى عن اتخاذ الشركاء لله سبحانه، و قد ابتلي بذلك أهل الكتاب عامة اليهود و النصارى، و إن كان أمر النصارى في ذلك أشنع و أفظع قال تعالى: «و قالت اليهود عزير ابن الله و قالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون، اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون الله و المسيح بن مريم و ما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا إلا هو سبحانه عما يشركون»: «التوبة: 31».
و القول بأن عزيرا ابن الله و إن كان غير ظاهر اليوم عند اليهود لكن الآية تشهد بأنهم كانوا يقولون ذلك في عصر النزول.
و الظاهر أن ذلك كان لقبا تشريفيا يلقبونه به قبال ما خدمهم و أحسن إليهم في إرجاعهم إلى أورشليم بيت المقدس بعد إسارة بابل، و جمع لهم التوراة ثانيا بعد ضياعه في قصة بخت نصر، و قد كانوا يعدون بنوة الله لقبا تشريفيا كما يتخذ النصارى اليوم الأبوة كذلك و يسمون الباباوات و البطارقة و القسيسين بالآباء الباب و البابا: الأب و قد قال تعالى: «و قالت اليهود و النصارى نحن أبناء الله و أحباؤه»: «المائدة: 18».
بل الآية الثانية أعني قوله: «اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون الله و المسيح بن مريم» تدل على ذلك حيث اقتصر فيها على ذكر المسيح (عليه السلام)، و لم يذكر عزيرا فدل على دخوله في عموم قوله: «أحبارهم و رهبانهم» و أنهم إنما كانوا يسمونه ابن الله كما يسمون أحبارهم أبناء الله، و قد خصوه بالذكر وحده شكرا لإحسانه إليهم كما تقدمت الإشارة إليه.
و بالجملة وضعهم بعض أنبيائهم و أحبارهم و رهبانهم موضع الربوبية و خضوعهم لهم بما لا يخضع بمثله إلا لله سبحانه غلو منهم في دينهم ينهاهم الله عن ذلك بلسان نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم).
و تقييد الغلو في الدين بغير الحق - و لا يكون الغلو إلا كذلك - إنما هو للتأكيد و تذكير لازم المعنى مع ملزومه لئلا يذهل عنه السامع و قد ذهل حين غلا أو كان كالذاهل.
و إطلاق الأب على الله سبحانه بتحليل معناه و تجريده عن وسمة نواقص المادة الجسمانية أي من بيده الإيجاد و التربية، و كذلك الابن بمعناه المجرد التحليلي و إن لم يمنعه العقل لكنه ممنوع شرعا لتوقيفية أسماء الله سبحانه لما في التوسع في إطلاق الأسماء المختلفة عليه تعالى من المفاسد، و كفى مفسدة في إطلاق الأب و الابن ما لقيته الأمتان: اليهود و النصارى و خاصة النصارى من أولياء الكنيسة خلال قرون متمادية و لن يزال الأمر على ذلك.
قوله تعالى: «و لا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل و أضلوا كثيرا و ضلوا عن سواء السبيل» ظاهر السياق أن المراد بهؤلاء القوم الذين نهوا عن اتباع أهوائهم هم المتبوعون المطاعون في آرائهم و أوامرهم فيكون ضلالهم لمكان التزامهم بآرائهم إضلالهم كثيرا هو اتباع غيرهم لهم، و ضلالهم عن سواء السبيل هو المتحصل لهم من ضلالهم و إضلالهم، و هو ضلال على ضلال.
و كذلك ظاهر السياق أن المراد بهم هم الوثنية و عبدة الأصنام فإن ظاهر السياق أن الخطاب إنما هو لجميع أهل الكتاب لا للمعاصرين منهم للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى يكون نهيا لمتأخريهم عن اتباع متقدميهم.
و يؤيده بل يدل عليه قوله تعالى: «و قالت اليهود عزير ابن الله، و قالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل»: «التوبة: 30».
فيكون ذلك حقيقة تحليلية تاريخية أشار إليها القرآن الكريم هي أن القول بالأبوة و البنوة مما تسرب إلى أهل الكتاب من قبل من تقدمهم من الوثنية، و قد تقدم في الكلام على قصص المسيح (عليه السلام) في سورة آل عمران في الجزء الثالث من الكتاب أن هذا القول في جملة من الأقوال و الآراء موجود عند الوثنية البرهمنية و البوذية في الهند و الصين، و كذلك مصر القديم و غيرهم، و إنما أخذ بالتسرب في الملة الكتابية بيد دعاتها، فظهر في زي الدين و كان الاسم لدين التوحيد و المسمى للوثنية.
قوله تعالى: «لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود و عيسى بن مريم» إلى آخر الآيتين إخبار بأن الكافرين منهم ملعونون بلسان أنبيائهم، و فيه تعريض لهؤلاء الذين كفرهم الله في هذه الآيات من اليهود ملعونين بدعوة أنبيائهم أنفسهم، و ذلك بسبب عصيانهم لأنبيائهم، و هم كانوا مستمرين على الاعتداء و قوله: «كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه» «إلخ» بيان لقوله: «و كانوا يعتدون».
قوله تعالى: «ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا» «إلخ»، و هذا من قبيل الاستشهاد بالحس على كونهم معتدين فإنهم لو قدروا دينهم حق قدره لزموه و لم يعتدوه، و لازم ذلك أن يتولوا أهل التوحيد و يتبرءوا من الذين كفروا لأن أعداء ما يقدسه قوم أعداء لذلك القوم، فإذا تحابوا و توالوا دل ذلك على إعراض ذلك القوم و تركهم ما كانوا يقدسونه و يحترمونه، و صديق العدو عدو، ثم ذمهم الله تعالى بقوله: «لبئس ما قدمت لهم أنفسهم» و هو ولاية الكفار عن هوى النفس، و كان جزاؤه و وباله «أن سخط الله عليهم و في العذاب هم خالدون»، ففي الآية وضع جزاء العمل و عاقبته موضع العمل كأن أنفسهم قدمت لهم جزاء العمل بتقديم نفس العمل.
قوله تعالى: «و لو كانوا يؤمنون بالله و النبي و ما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء و لكن كثيرا منهم فاسقون» أي و لو كان أهل الكتاب هؤلاء يؤمنون بالله و النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و ما أنزل إليه، أو نبي أنفسهم كموسى مثلا و ما أنزل إليه كالتوراة مثلا ما اتخذوا أولئك الكفار أولياء لأن الإيمان يجب سائر الأسباب، و لكن كثيرا منهم فاسقون متمردون عن الإيمان.
و في الآية وجه آخر احتملوه، و هو أن يرجع ضمائر قوله: «كانوا» و «يؤمنون» و «هم» في قوله: «ما اتخذوهم» راجعة إلى الذين كفروا، و المعنى: و لو كان الذين كفروا أولئك الكفار الذين يتولاهم أهل الكتاب يؤمنون بالله و النبي و القرآن ما اتخذتهم أهل الكتاب أولياء، و إنما تولوهم لمكان كفرهم، و هذا وجه لا بأس به غير أن الإضراب في قوله: «و لكن كثيرا منهم فاسقون» لا يلائمه.
قوله تعالى: «لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود و الذين أشركوا - إلى قوله - نصارى» لما بين سبحانه في الآيات السابقة الرذائل المشتركة بين أهل الكتاب عامة، و بعض ما يختص ببعضهم كقول اليهود: «يد الله مغلولة» و قول النصارى: «إن الله هو المسيح بن مريم» ختم الآيات بما يختص به كل من الطائفين إذا قيس حالهم من المؤمنين و دينهم، و أضاف إلى حالهم حال المشركين ليتم الكلام في وقع الإسلام من قلوب الأمم غير المسلمة من حيث قربهم و بعدهم من قبوله.
و يتم الكلام في أن النصارى أقرب تلك الأمم مودة للمسلمين و أسمع لدعوتهم الحقة.
و إنما عدهم الله سبحانه أقرب مودة للمسلمين لما وقع من إيمان طائفة منهم بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما يدل عليه قوله في الآية التالية: «و إذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول» «إلخ»، لكن لو كان إيمان طائفة تصحح هذه النسبة إلى جميعهم كان من الواجب أن تعد اليهود و المشركون كمثل النصارى و ينسب إليهما نظير ما نسب إليهم لمكان إسلام طائفة من اليهود كعبد الله بن سلام و أصحابه، و إسلام عدة من مشركي العرب و هم عامة المسلمين اليوم فتخصيص النصارى بمثل قوله: «و إذا سمعوا ما أنزل» «إلخ»، دون اليهود و المشركين يدل على حسن إقبالهم على الدعوة الإسلامية و إجابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أنهم على خيار بين أن يقيموا على دينهم و يؤدوا الجزية، و بين أن يقبلوا الإسلام، أو يحاربوا.
و هذا بخلاف المشركين فإنهم لم يكن يقبل منهم إلا قبول الدعوة فكثرة المؤمنين منهم لا يدل على حسن الإجابة، على ما كابد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من جفوتهم و لقاه المسلمون من أيديهم بقسوتهم و نخوتهم.
و كذلك اليهود و إن كانوا كالنصارى في إمكان إقامتهم على دينهم و تأدية الجزية إلى المسلمين لكنهم تمادوا في نخوتهم، و تصلبوا في عصبيتهم، و أخذوا بالمكر و المكيدة، و نقضوا عهودهم، و تربصوا الدوائر على المسلمين، و مسوهم بأمر المس و آلمه.
و هذا الذي جرى من أمر النصارى مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الدعوة الإسلامية، و حسن إجابتهم، و كذا من أمر اليهود و المشركين في التمادي على الاستكبار و العصبية جرى بعينه بعده (صلى الله عليه وآله وسلم) على حذو ما جرى في عهده فما أكثر من لبى الدعوة الإسلامية من فرق النصارى خلال القرون الماضية، و ما أقل ذلك من اليهود و الوثنيين! فاحتفاظ هذه الخصيصة في هؤلاء و هؤلاء يصدق الكتاب العزيز في ما أفاده.
و من المعلوم أن قوله تعالى: «لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا» من قبيل بيان الضابط العام في صورة خطاب خاص نظير ما مر في الآيات السابقة: «ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا» و «ترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم».
قوله تعالى: «ذلك بأن منهم قسيسين و رهبانا و أنهم لا يستكبرون» القسيس معرب «كشيش» و الرهبان جمع الراهب و قد يكون مفردا، قال الراغب: الرهبة و الرهب مخافة مع تحرز - إلى أن قال - و الترهب التعبد، و الرهبانية غلو في تحمل التعبد من فرط الرهبة، قال تعالى: «و رهبانية ابتدعوها» و الرهبان يكون واحدا و جمعا فمن جعله واحدا جمعه على رهابين، انتهى.
علل تعالى ما ذكره من كون النصارى أقرب مودة و آنس قلوبا للذين آمنوا بخصال ثلاث يفقدها غيرهم من اليهود و المشركين، و هي أن فيهم علماء و أن فيهم رهبانا و زهادا، و أنهم لا يستكبرون و ذلك مفتاح تهيؤهم للسعادة.
و ذلك أن سعادة حياة الدين أن تقوم بصالح العمل عن علم به، و إن شئت فقل: إن يذعن بالحق فيطبق عمله عليه فله حاجة إلى العلم ليدرك به حق الدين و هو دين الحق، و مجرد إدراك الحق لا يكفي للتهيؤ للعمل على طبقه حتى ينتزع الإنسان من نفسه الهيئة المانعة عنه، و هو الاستكبار عن الحق بعصبية و ما يشابهها، و إذا تلبس الإنسان بالعلم النافع و النصفة في جنب الحق برفع الاستكبار تهيأ للخضوع للحق بالعمل به لكن بشرط عدم منافاة الجو لذلك فإن لموافقة الجو للعمل تأثيرا عظيما في باب الأعمال فإن الأعمال التي يعتورها عامة المجتمع و ينمو عليها أفراده، و تستقر عليهم عادتهم خلفا عن سلف لا يبقى للنفس فراغ أن تتفكر في أمرها أو تتدبر و تدبر في التخلص عنها إذا كانت ضارة مفسدة للسعادة، و كذلك الحال في الأعمال الصالحة إذا استقر التلبس بها في مجتمع يصعب على النفس تركها، و لذا قيل: إن العادة طبيعة ثانية، و لذا كان أيضا أول فعل مخالف حرجا على النفس في الغاية و هو عند النفس دليل على الإمكان، ثم لا يزال كلما تحقق فعل زاد في سهولة التحقق و نقص بقدره من صعوبته.
فإذا تحقق الإنسان أن عملا كذا حق صالح و نزع عن نفسه أغراض العناد و اللجاج بإماتة الاستكبار و الاستعلاء على الحق كان من العون كل العون على إتيانه أن يرى إنسانا يرتكبه فتتلقى نفسه إمكان العمل.
و من هنا يظهر أن المجتمع إنما يتهيأ لقبول الحق إذا اشتمل على علماء يعلمونه و يعلمونه، و على رجال يقومون بالعمل به حتى يذعن العامة بإمكان العمل و يشاهدوا حسنه، و على اعتياد عامتهم على الخضوع للحق و عدم الاستكبار عنه إذا انكشف لهم.
و لهذا علل الله سبحانه قرب النصارى من قبول الدعوة الحقة الدينية بأن فيهم قسيسين و رهبانا و أنهم لا يستكبرون ففيهم علماء لا يزالون يذكرونهم مقام الحق و معارف الدين قولا، و فيهم زهاد يذكرونهم عظمة ربهم و أهمية سعادتهم الأخروية و الدنيوية عملا، و فيهم عدم الاستكبار عن قبول الحق.
و أما اليهود فإنهم و إن كان فيهم أحبار علماء لكنهم مستكبرون لا تدعهم رذيلة العناد و الاستعلاء أن يتهيئوا لقبول الحق.
و أما الذين أشركوا فإنهم يفقدون العلماء و الزهاد، و فيهم رذيلة الاستكبار.
قوله تعالى: «و إذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع» «إلخ»، فاضت العين بالدمع سال دمعها بكثرة، و من في قوله: «من الدمع» للابتداء، و في قوله: «مما» للنشوء، و في قوله: «من الحق» بيانية.
قوله تعالى: «و ما لنا لا نؤمن بالله» «إلخ»، لفظة «يدخلنا» كأنها مضمنة معنى الجعل، و لذلك عدي بمع، و المعنى: يجعلنا ربنا مع القوم الصالحين مدخلا لنا فيهم.
و في هذه الأفعال و الأقوال التي حكاها الله تعالى عنهم تصديق ما ذكره عنهم أنهم أقرب مودة للذين آمنوا، و تحقيق أن فيهم العلم النافع و العمل الصالح و الخضوع للحق حيث كان فيهم قسيسون و رهبان و هم لا يستكبرون.
قوله تعالى: «فأثابهم الله» إلى آخر الآيتين، «الإثابة» المجازاة، و الآية الأولى ذكر جزائهم، و الآية الثانية فيها ذكر جزاء من خالفهم على طريق المقابلة استيفاء للأقسام.
بحث روائي
في معاني الأخبار، بإسناده عن الرضا عن آبائه، عن علي (عليه السلام): في قوله تعالى: «كانا يأكلان الطعام» معناه أنهما كانا يتغوطان:. أقول: و رواه العياشي في تفسيره مرفوعا.
و في الكافي، بإسناده عن أبي عبيدة الحذاء، عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: «لعن الذين كفروا من بني إسرائيل - على لسان داود و عيسى بن مريم» قال: الخنازير على لسان داود، و القردة على لسان عيسى بن مريم:. أقول: و رواه القمي و العياشي عنه (عليه السلام)، و روي بطرق أهل السنة عن مجاهد و قتادة و غيرهما: لعن القردة على لسان داود، و الخنازير على لسان عيسى بن مريم، و يوافقه بعض روايات الشيعة كما يأتي.
و في المجمع، عن أبي جعفر (عليه السلام): أما داود فإنه لعن أهل أيلة لما اعتدوا في سبتهم، و كان اعتداؤهم في زمانه فقال: اللهم ألبسهم اللعنة مثل الرداء، و مثل المنطقة على الخصرين فمسخهم الله قردة، و أما عيسى فإنه لعن الذين نزلت عليهم المائدة ثم كفروا بعد ذلك، قال: فقال أبو جعفر (عليه السلام): يتولون الملوك الجبارين، و يزينون لهم هواهم ليصيبوا من دنياهم.
أقول: و القرآن يؤيد كون أصحاب السبت ممسوخين إلى القردة قال تعالى: «و لقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين»: «البقرة: 56» و قال تعالى: «و أسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا و يوم لا يسبتون لا تأتيهم - إلى أن قال - و إذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربهم و لعلهم يتقون - إلى أن قال - فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين»: «الأعراف: 166».
و في الدر المنثور،: أخرج عبد بن حميد و أبو الشيخ و الطبراني و ابن مردويه عن ابن مسعود قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن بني إسرائيل لما عملوا الخطيئة نهاهم علماؤهم تعزيرا ثم جالسوهم و آكلوهم و شاربوهم كأن لم يعملوا بالأمس خطيئة فلما رأى الله ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض، و لعنهم على لسان نبي من الأنبياء، ثم قال، رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): و الله لتأمرن بالمعروف، و لتنهن عن المنكر، و لتأطرنهم على الحق أطرا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض و ليلعننكم كما لعنهم.
و فيه،: أخرج عبد بن حميد عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): خذوا العطاء ما كان عطاء فإذا كان رشوة عن دينكم فلا تأخذوا و لن تتركوه يمنعكم من ذلك الفقر و المخافة أن بني يأجوج قد جاءوا، و إن رحى الإسلام سيدور فحيثما دار القرآن فدوروا به، يوشك السلطان و القرآن أن يقتتلا و يتفرقا أنه سيكون عليكم ملوك يحكمون لكم بحكم و لهم بغيره فإن أطعتموهم أضلوكم، و إن عصيتموهم قتلوكم. قالوا: يا رسول الله كيف بنا إن أدركنا ذلك؟ قال: تكونوا كأصحاب عيسى نشروا بالمناشير، و رفعوا على الخشب، موت في طاعة خير من حياة في معصية إن أول ما نقص في بني إسرائيل أنهم كانوا يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر سنة التعزير فكان أحدهم إذا لقي صاحبه الذي كان يعيب عليه آكله و شاربه و كأنه لم يعب عليه شيئا فلعنهم الله على لسان داود، و ذلك بما عصوا و كانوا يعتدون. و الذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف و لتنهن عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم ثم ليدعون خياركم فلا يستجاب لكم. و الذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف و لتنهن عن المنكر، و لتأخذن على يد الظالم فلتأطرنه عليه أطرا أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض.
و فيه، أيضا: أخرج ابن راهويه و البخاري في الوحدانيات، و ابن السكن و ابن مندة و الباوردي في معرفة الصحابة، و الطبراني و أبو نعيم و ابن مردويه عن ابن أبزى، عن أبيه: قال: خطب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فحمد الله و أثنى عليه ثم ذكر طوائف من المسلمين فأثنى عليهم خيرا، ثم قال: ما بال أقوام لا يعلمون جيرانهم و لا يفقهونهم، و لا يأمرونهم و لا ينهونهم؟ و ما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم و لا يتفقهون و لا يتفطنون؟ و الذي نفسي بيده ليعلمن جيرانهم، أو ليتفقهن أو ليتفطنن أو لأعاجلنهم بالعقوبة في دار الدنيا، ثم نزل و دخل بيته فقال أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من يعني بهذا الكلام؟ قالوا: ما نعلم يعني بهذا الكلام إلا الأشعريين فقهاء علماء، و لهم جيران جفاة جهلة. فاجتمع جماعة من الأشعريين فدخلوا على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: ذكرت طوائف من المسلمين بخير و ذكرتنا بشر فما بالنا؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لتعلمن جيرانكم و لتفقهنهم و لتأمرنهم و لتنهنهم أو لأعاجلنكم بالعقوبة في دار الدنيا، فقالوا: يا رسول الله فأمهلنا سنة ففي سنة ما نعلمهم و يتعلمون فأمهلهم سنة ثم قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «لعن الذين كفروا من بني إسرائيل - على لسان داود و عيسى بن مريم - ذلك بما عصوا و كانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون».
و في تفسير العياشي، عن محمد بن الهيثم التميمي عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله: «كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه - لبئس ما كانوا يفعلون»، قال: أما إنهم لم يكونوا يدخلون مداخلهم و لا يجالسون مجالسهم و لكن كانوا إذا لقوهم ضحكوا في وجوههم و أنسوا بهم.
و فيه، أيضا: عن مروان، عن بعض أصحابه، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: ذكر النصارى و عداوتهم فقال: قول الله: «ذلك بأن منهم قسيسين و رهبانا و أنهم لا يستكبرون»، قال: أولئك كانوا قوما بين عيسى و محمد ينتظرون مجيء محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
أقول: ظاهر الآية العموم دون الخصوص، و لعل المراد أن المدح إنما هو لهم ما لم يغيروا كما أن الذي مدح الله به المسلمين كذلك.
و في الدر المنثور،: أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه عن سعيد بن جبير: في قوله: «ذلك بأن منهم قسيسين و رهبانا» قال: هم رسل النجاشي الذين أرسل بإسلامه إسلام قومه كانوا سبعين رجلا اختارهم من قومه الخير فالخير في الفقه و السن.
و في لفظ: بعث من خيار أصحابه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثلاثين رجلا فلما أتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دخلوا عليه فقرأ عليهم سورة «يس» فبكوا حين سمعوا القرآن و عرفوا أنه الحق. فأنزل الله فيهم: «ذلك بأن منهم قسيسين و رهبانا،» الآية و نزلت هذه الآية فيهم أيضا: «الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون» إلى قوله أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا».
و فيه،: أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن ابن عباس قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو بمكة يخاف على أصحابه من المشركين فبعث جعفر بن أبي طالب و ابن مسعود و عثمان بن مظعون في رهط من أصحابه إلى النجاشي ملك الحبشة. فلما بلغ المشركين بعثوا عمرو بن العاص في رهط منهم، ذكروا أنهم سبقوا أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى النجاشي فقالوا: إنه قد خرج فينا رجل سفه عقول قريش و أحلامها زعم أنه نبي، و أنه بعث إليك رهطا ليفسدوا عليك قومك فأحببنا أن نأتيك و نخبرك خبرهم. قال: إن جاءوني نظرت فيما يقولون، فلما قدم أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأتوا إلى باب النجاشي فقالوا: استأذن لأولياء الله فقال: ائذن لهم فمرحبا بأولياء الله فلما دخلوا عليه سلموا، فقال الرهط من المشركين: أ لم تر أيها الملك أنا صدقناك، و أنهم لم يحييوك بتحيتك التي تحيا بها؟ فقال لهم: ما يمنعكم أن تحيوني بتحيتي؟ قالوا: إنا حييناك بتحية أهل الجنة و تحية الملائكة. فقال لهم: ما يقول صاحبكم في عيسى و أمه؟ قالوا: يقول: عبد الله و رسوله و كلمة من الله و روح منه ألقاها إلى مريم، و يقول في مريم: أنها العذراء الطيبة البتول قال: فأخذ عودا من الأرض فقال: ما زاد عيسى و أمه على ما قال صاحبكم هذا العود، فكره المشركون قوله و تغير له وجوههم. فقال: هل تقرءون شيئا مما أنزل عليكم؟ قالوا: نعم، قال: فاقرءوا فقرءوا و حوله القسيسون و الرهبان و سائر النصارى فجعلت طائفة من القسيسين و الرهبان كلما قرءوا آية انحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق قال الله: «ذلك بأن منهم قسيسين و رهبانا - و أنهم لا يستكبرون، و إذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول - ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق».
أقول: و روى القمي في تفسيره،: القصة مفصلة في خبر طويل، و في آخره: و رجعوا إلى النجاشي فأخبروه خبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و قرءوا عليه ما قرأ عليهم فبكى النجاشي و بكى القسيسون، و أسلم النجاشي و لم يظهر للحبشة إسلامه، و خافهم على نفسه فخرج من بلاد الحبشة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلما عبر البحر توفي، الحديث -.
كلام في معنى التوحيد في القرآن
لا يرتاب الباحث المتعمق في المعارف الكلية أن مسألة التوحيد من أبعدها غورا، و أصعبها تصورا و إدراكا، و أعضلها حلا لارتفاع كعبها عن المسائل العامة العامية التي تتناولها الأفهام، و القضايا المتداولة التي تألفها النفوس، و تعرفها القلوب.
و ما هذا شأنه تختلف العقول في إدراكه و التصديق به للتنوع الفكري الذي فطر عليه الإنسان من اختلاف أفراده من جهة البنية الجسمية و أداء ذلك إلى اختلاف أعضاء الإدراك في أعمالها ثم تأثير ذلك الفهم و التعقل من حيث الحدة و البلادة، و الجودة و الرداءة، و الاستقامة و الانحراف.
فهذا كله مما لا شك فيه، و قد قرر القرآن هذا الاختلاف في موارد من آياته الكريمة كقوله تعالى: «هل يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب»: «الزمر: 9»، و قوله تعالى: «فأعرض عمن تولى عن ذكرنا و لم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم»: «النجم: 30»، و قوله تعالى: «فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا»: «النساء: 87»، و قوله تعالى في ذيل الآية 75 من المائدة و هي من جملة الآيات التي نحن فيها: «انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون».
و من أظهر مصاديق هذا الاختلاف الفهمي اختلاف أفهام الناس في تلقي معنى توحده تعالى لما في أفهامهم من الاختلاف العظيم و النوسان الوسيع في تقرير مسألة وجوده تعالى على ما بينهم من الاتفاق على ما تعطيه الفطرة الإنسانية بإلهامها الخفي و إشارتها الدقيقة.
فقد بلغ فهم آحاد من الإنسان في ذلك أن جعل الأوثان المتخذة، و الأصنام المصنوعة من الخشب و الحجارة حتى من نحو الأقط و الطينة المعمولة من أبوال الغنم شركاء لله، و قرناء له، يعبد كما تعبد هؤلاء، و يسأل كما تسأل هؤلاء، و يخضع له كما يخضع لها، و لم يلبث هذا الإنسان دون أن غلب هذه الأصنام عليه تعالى بزعمه، و أقبل عليها و تركه، و أمرها على حوائجه و عزله.
فهذا الإنسان قصارى ما يراه من الوجود له تعالى هو مثل ما يراه لآلهته التي خلقها بيده، أو خلقها إنسان مثله بيده، و لذلك كانوا يثبتون له تعالى من صفة الوحدة مثل ما يصفون به كل واحد من أصنامهم، و هي الوحدة العددية التي تتألف منها الأعداد، قال تعالى: «و عجبوا أن جاءهم منذر منهم و قال الكافرون هذا ساحر كذاب، أ جعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب: ص: 6».
فهؤلاء كانوا يتلقون الدعوة القرآنية إلى التوحيد دعوة إلى القول بالوحدة العددية التي تقابل الكثرة العددية كقوله تعالى: «و إلهكم إله واحد لا إله إلا هو»: «البقرة: 136» و قوله تعالى: «هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين»: المؤمن: 65» و غير ذلك من الآيات الداعية إلى رفض الآلهة الكثيرة، و توجيه الوجه لله الواحد، و قوله تعالى: «و إلهنا و إلهكم واحد»: «العنكبوت: 46» و غيره من الآيات الداعية إلى رفض التفرق في العبادة للإله، حيث كانت كل أمة أو طائفة أو قبيلة تتخذ إلها تختص به، و لا تخضع لإله الآخرين.
و القرآن ينفي في عالي تعليمه الوحدة العددية عن الإله جل ذكره، فإن هذه الوحدة لا تتم إلا بتميز هذا الواحد من ذلك الواحد بالمحدودية التي تقهره، و المقدرية التي تغلبه، مثال ذلك ماء الحوض إذا فرقناه في آنية كثيرة كان ماء كل إناء ماء واحدا غير الماء الواحد الذي في الإناء الآخر، و إنما صار ماء واحدا يتميز عما في الآخر لكون ما في الآخر مسلوبا عنه غير مجتمع معه، و كذلك هذا الإنسان إنما صار إنسانا واحدا لأنه مسلوب عنه ما للإنسان الآخر، و لو لا ذلك لم يأت للإنسانية الصادقة على هذا و ذاك أن تكون واحدة بالعدد و لا كثيرة بالعدد.
فمحمودية الوجود هي التي تقهر الواحد العددي على أن يكون واحدا ثم بانسلاب هذه الوحدة من بعض الجهات تتألف كثرة عددية كما عنده عروض صفة الاجتماع بوجه.
و إذ كان الله سبحانه قاهرا غير مقهور، و غالبا لا يغلبه شيء البتة كما يعطيه التعليم القرآني لم تتصور في حقه وحدة عددية و لا كثرة عددية، قال تعالى: «و هو الواحد القهار»: «الرعد: 16»، و قال: «أ أرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم و آباؤكم»: «يوسف: 40»، و قال: «و ما من إله إلا الله الواحد القهار»: «ص: 65»، و قال: «لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار»: «الزمر: 4».
و الآيات بسياقها - كما ترى - تنفي كل وحدة مضافة إلى كثرة مقابلة لها سواء كانت وحدة عددية كالفرد الواحد من النوع الذي لو فرض بإزائه فرد آخر كانا اثنين فإن هذا الفرد مقهور بالحد الذي يحده به الفرد الآخر المسلوب عنه المفروض قباله، أو كانت وحدة نوعية أو جنسية أو أي وحدة كلية مضافة إلى كثرة من سنخها كالإنسان الذي هو نوع واحد مضاف إلى الأنواع الكثيرة الحاصلة منه و من الفرس و البقر و الغنم و غيرها فإنه مقهور بالحد الذي يحده به ما يناظره من الأنواع الآخر، و إذ كان تعالى لا يقهره شيء في شيء البتة من ذاته و لا صفته و لا فعله و هو القاهر فوق كل شيء فليس بمحدود في شيء يرجع إليه، فهو موجود لا يشوبه عدم، و حق لا يعرضه بطلان، و هو الحي لا يخالطه موت، و العليم لا يدب إليه جهل، و القادر لا يغلبه عجز، و المالك و الملك من غير أن يملك منه شيء و العزيز الذي لا ذل له، و هكذا.
فله تعالى من كل كمال محضه، و إن شئت زيادة تفهم و تفقه لهذه الحقيقة القرآنية فافرض أمرا متناهيا و آخر غير متناه تجد غير المتناهي محيطا بالمتناهي بحيث لا يدفعه المتناهي عن كماله المفروض أي دفع، فرضته بل غير المتناهي مسيطر عليه بحيث لا يفقده المتناهي في شيء من أركان كماله، و غير المتناهي هو القائم على نفسه، الشهيد عليه، المحيط به، ثم انظر في ذلك إلى ما يفيده قوله تعالى: «أ و لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد، ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شيء محيط»: «حم السجدة: 54».
و هذا هو الذي يدل عليه عامة الآيات الواصفة لصفاته تعالى الواقعة في سياق الحصر أو الظاهر فيه كقوله تعالى: «الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى»: «طه: 8»، و قوله: «و يعلمون أن الله هو الحق المبين»: «النور: 25»، و قوله: «هو الحي لا إله إلا هو»: «المؤمن: 65»، و قوله: «و هو العليم القدير»: «الروم: 54»، و قوله: «إن القوة لله جميعا»: «البقرة: 156»، و قوله: «له الملك و له الحمد»: «التغابن: 1»، و قوله: «إن العزة لله جميعا»: «يونس: 65»، و قوله: «الحق من ربك»: «البقرة: 174»، و قوله: «أنتم الفقراء إلى الله و الله هو الغني»: «فاطر: 15»، إلى غير ذلك من الآيات.
فالآيات - كما ترى - تنادي بأعلى صوتها أن كل كمال مفروض فهو لله سبحانه بالأصالة، و ليس لغيره شيء إلا بتمليكه تعالى له ذلك من غير أن ينعزل عما يملكه و يملكه كما ننعزل نحن معاشر الخليقة عما ملكناه غيرنا.
فكلما فرضنا شيئا من الأشياء ذا شيء من الكمال في قباله تعالى ليكون ثانيا له و شريكا عاد ما بيده من معنى الكمال لله سبحانه محضا، و هو الحق الذي يملك كل شيء، و غيره الباطل الذي لا يملك لنفسه شيئا قال تعالى: «لا يملكون لأنفسهم ضرا و لا نفعا و لا يملكون موتا و لا حياة و لا نشورا»: «الفرقان: 3».
و هذا المعنى هو الذي ينفي عنه تعالى الوحدة العددية إذ لو كان واحدا عدديا أي موجودا محدودا منعزل الذات عن الإحاطة بغيره من الموجودات صح للعقل أن يفرض مثله الثاني له سواء كان جائز التحقق في الخارج أو غير جائز التحقق، و صح عند العقل أن يتصف بالكثرة بالنظر إلى نفسه و إن فرض امتناعه في الواقع، و ليس كذلك.
فهو تعالى واحد بمعنى أنه من الوجود بحيث لا يحد بحد حتى يمكن فرض ثان له فيما وراء ذلك الحد و هذا معنى قوله تعالى: «قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد و لم يولد، و لم يكن له كفوا أحد»: سورة التوحيد - 4 فإن لفظ أحد إنما يستعمل استعمالا يدفع إمكان فرض العدد في قباله يقال: «ما جاءني أحد» و ينفي به أن يكون قد جاء الواحد و كذا الاثنان و الأكثر و قال تعالى: «و إن أحد من المشركين استجارك»: «التوبة: 6» فشمل الواحد و الاثنين و الجماعة و لم يخرج عن حكمه عدد، و قال تعالى: «أو جاء أحد منكم من الغائط» فشمل الواحد و ما وراءه، و لم يشذ منه شاذ.
فاستعمال لفظ أحد في قوله: «هو الله أحد» في الإثبات من غير نفي و لا تقييد بإضافة أو وصف يفيد أن هويته تعالى بحيث يدفع فرض من يماثله في هويته بوجه سواء كان واحدا أو كثيرا فهو محال بحسب الفرض الصحيح مع قطع النظر عن حاله بحسب الخارج.
و لذلك وصفه تعالى أولا بأنه صمد، و هو المصمت الذي لا جوف له و لا مكان خاليا فيه، و ثانيا بأنه لم يلد، و ثالثا بأنه لم يولد، و رابعا بأنه لم يكن له كفوا أحد، و كل هذه الأوصاف مما يستلزم نوعا من المحدودية و الانعزال.
و هذا هو السر في عدم وقوع توصيفات غيره تعالى عليه حق الوقوع و الاتصاف قال تعالى: «سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين»: «الصافات: 106»، و قال تعالى: «و لا يحيطون به علما»: «طه: 101»، فإن المعاني الكمالية التي نصفه تعالى بها أوصاف محدودة، و جلت ساحته سبحانه عن الحد و القيد، و هو الذي يرومه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في كلمته المشهورة: لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك».
و هذا المعنى من الوحدة هو الذي يدفع به تثليث النصارى فإنهم موحدون في عين التثليث لكن الذي يذعنون به من الوحدة وحدة عددية لا تنفي الكثرة من جهة أخرى فهم يقولون: إن الأقانيم الأب و الابن و الروح الذات و العلم و الحياة ثلاثة و هي واحدة كالإنسان الحي العالم فهو شيء واحد لأنه إنسان حي عالم و هو ثلاثة لأنه إنسان و حياة و علم.
لكن التعليم القرآني ينفي ذلك لأنه يثبت من الوحدة ما لا يستقيم معه فرض أي كثرة و تمايز لا في الذات و لا في الصفات، و كل ما فرض من شيء في هذا الباب كان عين الآخر لعدم الحد فذاته تعالى عين صفاته، و كل صفة مفروضة له عين الأخرى، تعالى الله عما يشركون، و سبحانه عما يصفون.
و لذلك ترى أن الآيات التي تنعته تعالى بالقهارية تبدأ أولا بنعت الوحدة ثم تصفه بالقهارية لتدل على أن وحدته لا تدع لفارض مجال أن يفرض له ثانيا مماثلا بوجه فضلا عن أن يظهر في الوجود، و ينال الواقعية و الثبوت، قال تعالى: «أ أرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم و آباؤكم»: «يوسف: 40»، فوصفه بوحدة قاهرة لكل شريك مفروض لا تبقى لغيره تعالى من كل معبود مفروض إلا الاسم فقط، و قال تعالى: «أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء و هو الواحد القهار»: «الرعد: 16»، قال تعالى: «لمن الملك اليوم لله الواحد القهار»: «المؤمن: 16»، إذ ملكه تعالى المطلق لا يخلي مالكا مفروضا غيره دون أن يجعله نفسه و ما يملكه ملكا لله سبحانه، و قال تعالى: «و ما من إله إلا الله الواحد القهار»: ص: 65»، و قال تعالى: «لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار»: «الزمر: 4»، فرتب القهارية في جميع الآيات على صفة الوحدة.
بحث روائي
في التوحيد، و الخصال، بإسناده عن المقدام بن شريح بن هاني عن أبيه قال: إن أعرابيا قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين أ تقول: إن الله واحد؟ قال: فحمل الناس عليه و قالوا: يا أعرابي أ ما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسم القلب؟ فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): دعوه فإن الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم!. ثم قال: يا أعرابي إن القول في أن الله واحد على أربعة أقسام: فوجهان منها لا يجوزان على الله عز و جل، و وجهان يثبتان فيه فأما اللذان لا يجوزان عليه فقول القائل: واحد يقصد به باب الأعداد، فهذا ما لا يجوز، لأن ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد أ ما ترى أنه كفر من قال: إنه ثالث ثلاثة؟ و قول القائل: هو واحد من الناس يريد به النوع من الجنس فهذا ما لا يجوز لأنه تشبيه، و جل ربنا و تعالى عن ذلك. و أما الوجهان اللذان يثبتان فيه فقول القائل: هو واحد ليس له في الأشياء شبه، كذلك ربنا، و قول القائل: إنه عز و جل أحدي المعنى يعني به أنه لا ينقسم في وجود و لا عقل و لا وهم، كذلك ربنا عز و جل:. أقول: و رواه أيضا في المعاني، بسند آخر عن أبي المقدام بن شريح بن هاني عن أبيه عنه (عليه السلام).
و في النهج،: أول الدين معرفته، و كمال معرفته التصديق به، و كمال التصديق به توحيده، و كمال توحيده الإخلاص له، و كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، و شهادة كل موصوف أنه غير الصفة، فمن وصف الله فقد قرنه، و من قرنه فقد ثناه، و من ثناه فقد جزأه، و من جزأه فقد جهله، و من جهله فقد أشار إليه، و من أشار إليه فقد حده، و من حده فقد عده الخطبة.
أقول: و هو من أبدع البيان، و محصل الشطر الأول من الكلام أن معرفته تنتهي في استكمالها إلى نفي الصفات عنه، و محصل الشطر الثاني المتفرع على الشطر الأول - أعني قوله (عليه السلام): فمن وصف الله فقد قرنه إلخ - أن إثبات الصفات يستلزم إثبات الوحدة العددية المتوقفة على التحديد غير الجائز عليه تعالى، و تنتج المقدمتان أن كمال معرفته تعالى يستوجب نفي الوحدة العددية منه، و إثبات الوحدة بمعنى آخر، و هو مراده (عليه السلام) من سرد الكلام.
أما مسألة نفي الصفات عنه فقد بينه (عليه السلام): «بقوله أول الدين معرفته» لظهور أن من لم يعرف الله سبحانه و لو بوجه لم يحل بعد في ساحة الدين، و المعرفة ربما كانت مع عمل بما يرتبط به من الأفعال و ترتب آثار المعروف، و ربما كانت من غير عمل، و من المعلوم أن العلم فيما يتعلق نوع تعلق بالأعمال إنما يثبت و يستقر في النفس إذا ترتب عليه آثاره العملية، و إلا فلا يزال العلم يضعف بإتيان الأعمال المخالفة حتى يبطل أو يصير سدى لا أثر له، و من كلامه (عليه السلام) في هذا الباب - و قد رواه في النهج: «العلم مقرون بالعمل فمن علم عمل، و العلم يهتف بالعمل فإن أجابه و إلا ارتحل عنه.
فالعلم و المعرفة بالشيء إنما يكمل إذا أخذ العارف معروفه صدقا، و أظهر ذلك في باطنه و ظاهره، و جنانه و أركانه بأن يخضع له روحا و جسما، و هو الإيمان المنبسط على سره و علانيته، و هو قوله: «و كمال معرفته التصديق به».
ثم هذا الخضوع المسمى بالتصديق به و إن جاز تحققه مع إثبات الشريك للرب المخضوع له كما يخضع عبدة الأصنام لله و لسائر آلهتهم جميعا لكن الخضوع بشيء لا يتم من غير انصراف عن غيره بالبداهة، فالخضوع لواحد من الآلهة في معنى الإعراض عن غيره و الاستكبار في الجملة عنه فلا يكمل التصديق بالله و الخضوع لمقامه إلا بالإعراض عن عبادة الشركاء، و الانصراف عن دعوة الآلهة الكثيرة، و هو قوله: «و كمال التصديق به توحيده».
ثم إن للتوحيد مراتب مختلفة بعضها فوق بعض، و لا يكمل حتى يعطى الإله الواحد حقه من الألوهية المنحصرة، و لا يقتصر على مجرد تسميته إلها واحدا بل ينسب إليه كل ما له نصيب من الوجود و الكمال كالخلق و الرزق و الإحياء و الإماتة و الإعطاء و المنع، و أن يخص الخضوع و العبادة به فلا يتذلل لغيره بوجه من الوجوه بل لا يرجى إلا رحمته، و لا يخاف إلا سخطه، و لا يطمع إلا فيما عنده، و لا يعكف إلا على بابه.
و بعبارة أخرى أن يخلص له علما و عملا، و هو قوله (عليه السلام): «و كمال توحيده الإخلاص له».
و إذا استوى الإنسان على أريكة الإخلاص، و ضمته العناية الإلهية إلى أولياء الله المقربين لاحت على بصيرته لوائح العجز عن القيام بحق المعرفة، و توصيفه بما يليق بساحة كبريائه و عظمته فإنه ربما شاهد أن الذي يصفه تعالى به معان مدركة مما بين يديه من الأشياء المصنوعة، و أمور ألفها من مشهوداته الممكنة، و هي صور محدودة مقيدة يدفع بعضها بعضا، و لا تقبل الائتلاف و الامتزاج، انظر إلى مفاهيم الوجود و العلم و القدرة و الحياة و الرزق و العزة و الغنى و غيرها.
و المعاني المحدودة يدفع بعضها بعضا لظهور كون كل مفهوم خلوا عن المفهوم الآخر كمعنى العلم عن معنى القدرة فإنا حين ما نتصور العلم نصرف عن القدرة فلا نجد معناها في معنى العلم، و إذا تصورنا معنى العلم و هو وصف من الأوصاف ننعزل عن معنى الذات و هو الموصوف.
فهذه المفاهيم و العلوم و الإدراكات تقصر عن الانطباق عليه جل شأنه حق الانطباق، و عن حكاية ما هو عليه حق الحكاية فتمس حاجة المخلص في وصفه ربه إلى أن يعترف بنقص لا علاج له، و عجز لا جابر دونه فيعود فينفي ما أثبته، و يتيه في حيرة لا مخلص منها، و هو قوله (عليه السلام): «و كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، و شهادة كل موصوف أنها غير الصفة».
و هذا الذي فسرنا به هذا العقد من كلامه (عليه السلام) هو الذي يؤيده أول الخطبة حيث يقول: «الذي لا يدركه بعد الهمم، و لا يناله غوص الفطن، الذي ليس لصفته حد محدود، و لا نعت موجود، و لا وقت معدود، و لا أجل ممدود» على ما يظهر للمتأمل الفطن.
و أما قوله (عليه السلام): «فمن وصف الله فقد قرنه» إلخ، فهو توصل منه إلى المطلوب - و هو أن الله سبحانه لا حد له و لا عد - من طريق تحليل إثبات الوصف كما كان البيان الأول توصلا منه من طريق تحليل المعرفة إلى نفي الوصف.
فمن وصف الله فقد قرنه لما عرفت من المغايرة بين الموصوف و الصفة، و الجمع بين المتغارين قرن، و من قرنه فقد ثناه لأخذه إياه موصوفا و صفة و هما اثنان، و من ثناه فقد جزأه إلى جزءين، و من جزأه فقد جهله بالإشارة إليه إشارة عقلية، و من أشار إليه فقد حده لكون الإشارة مستلزمة لانفصال المشار إليه عن المشير حتى تتوسط بينهما الإشارة التي هي إيجاد بعد ما بين المشير و المشار إليه - يبتدىء من الأول و ينتهي إلى الثاني - «و من حده فقد عده» و جعله واحدا عدديا لأن العدد لازم الانقسام و الانعزال الوجودي تعالى الله عن ذلك.
و في النهج،: من خطبة له (عليه السلام): «الحمد لله الذي لم يسبق له حال حالا فيكون أولا قبل أن يكون آخرا، و يكون ظاهرا قبل أن يكون باطنا، كل مسمى بالوحدة غيره قليل، و كل عزيز غيره ذليل، و كل قوي غيره ضعيف، و كل مالك غيره مملوك، و كل عالم غيره متعلم، و كل قادر غيره يقدر و يعجز، و كل سميع غيره يصم عن لطيف الأصوات و يصمه كبيرها و يذهب عنه ما بعد منها، و كل بصير غيره يعمى عن خفي الألوان و لطيف الأجسام، و كل ظاهر غيره باطن، و كل باطن غيره ظاهر».
أقول: بناء البيان على كونه تعالى غير محدود و كون غيره محدودا فإن هذه المعاني و النعوت و كل ما كان من قبيلها إذا طرأ عليها الحد كانت لها إضافة ما إلى غيرها، و يستوجب التحدد حينئذ أن تنقطع و تزول عما أضيفت إليه، و تتبدل إلى ما يقابلها من المعنى.
فالظهور إذا فرض محدودا كان بالنسبة إلى جهة أو إلى شيء دون جهة أخرى و شيء آخر، و صار الأمر الظاهر باطنا خفيا بالنسبة إلى تلك الجهة الأخرى و الشيء الآخر، و العزة إذا أخذت بحد بطلت فيما وراء حدها فكانت ذلة بالنسبة إليه، و القوة إذا كانت مقيدة تبدلت بالنسبة إلى ما وراء قيدها ضعفا، و الظهور بطون في غير محله، و البطون ظهور في الخارج عن مستواه.
و الملك إذا كان محدودا كان من يحده مهيمنا على هذا المالك فهو و ملكه تحت ملك غيره، و العلم إذا كان محدودا لم يكن من صاحبه لأن الشيء لا يحد نفسه، فكان بإفاضة الغير و تعليمه، و هكذا.
و الدليل على أنه (عليه السلام) بنى بيانه على معنى الحد قوله: «و كل سميع غيره يصم عن لطيف الأصوات» إلخ، فإنه و ما بعده ظاهر في الإشارة إلى محدودية المخلوقات، و السياق واحد.
و أما قوله (عليه السلام): «و كل مسمى بالوحدة غيره قليل» - و الجملة هي المقصودة من نقل الخطبة - فبناؤه على معنى الحد ظاهر فإن الوحدة العددية المتفرعة على محدودية المسمى بالواحد لازمة تقسم المعنى و تكثره، و كلما زاد التقسم و التكثر أمعن الواحد في القلة و الضعف بالنسبة إلى الكثرة الحادثة، فكل واحد عددي فهو قليل بالنسبة إلى الكثير الذي بإزائه و لو بالفرض.
و أما الواحد الذي لا حد لمعناه و لا نهاية له فلا يحتمل فرض الكثرة لعدم احتماله طرو الحد و عروض التميز و لا يشذ عن وجوده شيء من معناه حتى يكثره و يقوى بضمه، و يقل و يضعف بعزله، بل كلما فرض له ثان في معناه فإذا هو هو.
و في النهج،: و من خطبة له (عليه السلام): «الحمد لله الدال على وجوده بخلقه، و بمحدث خلقه على أزليته، و باشتباههم على أن لا شبه له، لا يستلمه المشاعر، و لا يحجبه السواتر لافتراق الصانع و المصنوع، و الحاد و المحدود، و الرب و المربوب، الأحد لا بتأويل عدد، و الخالق لا بمعنى حركة و نصب، و السميع لا بأداة، و البصير لا بتفريق آلة، و الشاهد لا بمماسة، و البائن لا بتراخي مسافة، و الظاهر لا برؤية، و الباطن لا بلطافة بان من الأشياء بالقهر لها و القدرة عليها، و بانت الأشياء منه بالخضوع له و الرجوع إليه، من وصفه فقد حده، و من حده فقد عده، و من عده فقد أبطل أزله».
أقول: أول كلامه (عليه السلام) مبني على أن جميع المعاني و الصفات المشهودة في الممكنات أمور محدودة لا تتم إلا بحاد يحدها و صانع يصنعها، و رب يربها، و هو الله سبحانه، و إذ كان الحد من صنعه فهو متأخر عنه غير لازم له، فقد تنزهت ساحة كبريائه عن هذه الحدود.
و إذا كان كذلك كان ما يوصف به من الصفات غير محدود بحد - و إن كان لفظنا قاصرا عنه، و المعنى غير واف به - فهو تعالى أحد لا بتأويل عدد يقضي بالمحدودية، و على هذا النهج خلقه و سمعه و بصره و شهوده و غير ذلك.
و من فروع ذلك أن بينونته من خلقه ليس بمعنى الانفصال و الانعزال تعالى عن الاتصال و الانفصال، و الحلول و الانعزال، بل بمعنى قهره لها و قدرته عليها، و خضوعهم و رجوعهم إليه.
و قوله (عليه السلام): «من وصفه فقد حده و من حده، فقد عده و من عده، فقد أبطل أزله» فرع على إثبات الوحدة العددية إبطال الأزل لأن حقيقة الأزل كونه تعالى غير متناه في ذاته و صفاته و لا محدود فإذا اعتبر من حيث إنه غير مسبوق بشيء يتقدم عليه كان هو أزله، و إذا اعتبر من حيث إنه غير ملحوق بشيء يتأخر عنه كان هو أبده، و ربما اعتبر من الجانبين فكان دواما.
و أما ما يظهر من عدة من الباحثين أن معنى كونه تعالى أزليا أنه سابق متقدم على خلقه المحدث تقدما في أزمنة غير متناهية لا خبر فيها عن الخلق و لا أثر منهم فهو من أشنع الخطإ، و أين الزمان الذي هو مقدار حركة المتحركات و المشاركة معه تعالى في أزله؟!.
و في النهج،: و من خطبة له (عليه السلام): «الحمد لله خالق العباد، و ساطح المهاد، و مسبل الوهاد، و مخصب النجاد، ليس لأوليته ابتداء، و لا لأزليته انقضاء، هو الأول لم يزل، و الباقي بلا أجل، خرت له الجباه، و وحدته الشفاه، حد الأشياء عند خلقه لها إبانة له من شبهها، لا تقدره الأوهام بالحدود و الحركات، و لا بالجوارح و الأدوات، لا يقال: متى؟ و لا يضرب له أمد بحتى، الظاهر لا يقال: مما؟ و الباطن لا يقال: فيما؟ لا شبح فيتقضى و لا محجوب فيحوى، لم يقرب من الأشياء بالتصادق، و لم يبعد عنها بافتراق، لا يخفى عليه من عباده شخوص لحظة، و لا كرور لفظة، و لا ازدلاف ربوة، و لا انبساط خطوة في ليل داج، و لا غسق ساج، يتفيؤ عليه القمر المنير، و تعقبه الشمس ذات النور في الأفول و الكرور و تقلب الأزمنة و الدهور من إقبال ليل مقبل و إدبار نهار مدبر، قبل كل غاية و مدة، و كل إحصاء و عدة، تعالى عما ينحله المحددون من صفات الأقدار، و نهايات الأقطار، و تأثل المساكن، و تمكن الأماكن، فالحد لخلقه مضروب، و إلى غيره منسوب، لم يخلق الأشياء من أصول أزلية، و لا أوائل أبدية بل خلق ما خلق فأقام حده، و صور ما صور فأحسن صورته».
و في النهج،: من خطبة له (عليه السلام): «ما وحده من كيفه، و لا حقيقته أصاب من مثله، و لا إياه عنى من شبهه، و لا صمده من أشار إليه و توهمه، كل معروف بنفسه مصنوع، و كل قائم في سواه معلول، فاعل لا باضطراب آلة، مقدر لا يحول فكره، غني لا باستفادة، لا تصحبه الأوقات، و لا ترفده الأدوات، سبق الأوقات كونه، و العدم وجوده، و الابتداء أزله، بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له، و بمضادته بين الأمور عرف أن لا ضد له، و بمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له ضاد النور بالظلمة، و الوضوح بالبهمة، و الجمود بالبلل، و الحرور بالصرد، مؤلف بين متعادياتها، مقارن بين متبايناتها، مقرب بين متباعداتها، مفرق بين متدانياتها، لا يشمل بحد، و لا يحسب بعد، و إنما تحد الأدوات أنفسها، و تشير الإله إلى نظائرها، منعتها «منذ» القدمة، و حمتها «قد» الأزلية، و جنبتها «لو لا» التكملة، بها تجلى صانعها للعقول، و بها امتنع عن نظر العيون، لا يجري عليه السكون و الحركة، و كيف يجري عليه ما هو أجراه؟ و يعود فيه ما هو أبداه؟ و يحدث فيه ما هو أحدثه؟ إذا لتفاوتت ذاته، و لتجزأ كنهه، و لامتنع من الأزل معناه، و لكان له وراء إذا وجد له أمام، و لالتمس التمام إذا لزمه النقصان، و إذا لقامت آية المصنوع فيه، و لتحول دليلا بعد أن كان مدلولا عليه».
أقول: أول كلامه (عليه السلام) مسوق لبيان امتناع ذاته المقدسة عن الحد، و لزمه في جميع ما عداه، و قد تقدم توضيحه الإجمالي فيما تقدم.
و قوله: «لا يشمل بحد و لا يحسب بعد» كالنتيجة لما تقدمه من البيان، و قوله: «و إنما تحد الأدوات أنفسها، و تشير الإله إلى نظائرها» بمنزلة بيان آخر لقوله: «لا يشمل بحد، إلخ» فإن البيان السابق إنما سيق من مسلك أن هذه الحدود المستقرة في المصنوعات مجعولة للذات المتعالية متأخرة عنها تأخر الفعل عن فاعله فلا يمكن أن تتقيد بها الذات إذ كان ذات و لا فعل.
و أما ما في قوله: «و إنما تحد» «إلخ»، من البيان فهو مسوق من طريق آخر، و هو أن التقدير و التحديد الذي هو شأن هذه الأدوات و الحدود إنما هو بالمسانخة النوعية كما أن المثقال الذي هو واحد الوزن مثلا توزن به الأثقال دون الألوان و الأصوات مثلا، و الزمان الذي هو مقدار الحركة إنما تحد به الحركات، و الإنسان مثلا إنما يقدر بما له من الوزن الاجتماعي المتوسط مثلا من يماثله في الإنسانية، و بالجملة كل حد من هذه الحدود يعطي لمحدوده شبيه معناه، و كل صفة إمكانية كائنة ما كانت مبنية على قدر و حد و ملزومة لأمد و نهاية، و كيف يمكن أن يحمل معناها المحدود على ذات أزلية أبدية غير متناهية؟.
فهذا هو مراده (عليه السلام)، و لذلك أردفه بقوله: «منعتها منذ القدمة» «إلخ»، أي صدق كلمة «منذ» و كلمة «قد» الدالتين على الحدوث الزماني، على الأشياء منعتها و حمتها أن تتصف بالقدمة، و كذلك صدق كلمة «لو لا» في الأشياء و هي تدل على النقص و اقتران المانع جنبتها و بعدتها أن تكون كاملة من كل وجه.
و قوله: «بها تجلى صانعها للعقول و بها امتنع من نظر العيون» الضميران للأشياء أي إن، الأشياء بما هي آيات له تعالى و الآية لا تري إلا ذا الآية فهي كالمرائي لا تجلي إلا إياه تعالى فهو بها تجلى للعقول و بها أيضا امتنع عن نظر العيون إذ لا طريق إلى النظر إليه تعالى إلا هذه الآيات و هي محدودة لا تنال إلا مثلها لا ربها المحيط بكل شيء.
و هذا المعنى بعينه هو الموجب لامتناعه عن نظر العيون فإنها آلات مركبة مبنية على الحدود لا تعمل إلا في المحدود، و جلت ساحة رب العزة عن الحد.
و قوله (عليه السلام): «لا يجري عليه السكون و الحركة» «إلخ»، بمنزلة العود إلى أول الكلام ببيان آخر يبين به أن هذه الأفعال و الحوادث التي هي تنتهي إلى الحركة و السكون لا تجري عليه، و لا تعود فيه و لا تحدث فإنها آثاره التي تترتب على تأثيره في غيره، و معنى تأثير المؤثر توجيهه أثره المتفرع على نفسه إلى غيره، و لا معنى لتأثير الشيء في نفسه إلا بنوع من التجزي و التركيب العارض لذاته كالإنسان مثلا يدبر بنفسه بدنه، و يضرب بيده على رأسه، و الطبيب يداوي بطبه مرضه، فكل ذلك إنما يصح لاختلاف في الأجزاء أو الحيثيات، و لو لا ذلك لامتنع وقوع التأثير.
فالقوة الباصرة مثلا لا تبصر نفسها، و النار لا تحرق ذاتها، و هكذا جميع الفواعل لا تفعل إلا في غيرها إلا مع التركيب و التجزئة كما عرفت و هذا معنى قوله: «إذا لتفاوتت ذاته، و لتجزأ كنهه، و لامتنع من الأزل معناه» «إلخ».
و قوله (عليه السلام): «و إذا لقامت آية المصنوع فيه، و لتحول دليلا بعد أن كان مدلولا عليه» أي إذا لزمه النقص من تطرق هذه الحدود و الأقدار عليه، و النقص من علائم المصنوعية و أمارات الإمكان كان تعالى و تقدس مقارنا لما يدل على كونه مصنوعا و كان نفسه كسائر المصنوعات دليلا على موجود آخر أزلي كامل الوجود غير محدود الذات هو الإله المنزه عن كل نقص مفروض، المتعالي عن أن تناله أيدي الحدود و الأقدار.
و اعلم أن ما يدل عليه قوله - من كون الدلالة هي من شئون المصنوع الممكن - لا ينافي ما يستفاد من سائر كلامه و كلام سائر أئمة أهل البيت (عليهم السلام): أنه تعالى معلوم بنفس ذاته، و غيره معلوم به، و أنه دال على ذاته، و هو الدليل على مخلوقاته فإن العلم غير العلم و الدلالة غير الدلالة، و أرجو أن يوفقني الله تعالى لإيضاحه و بسط الكلام فيه في بعض ما يرتبط به من الأبحاث الآتية إن شاء الله العزيز.
و في التوحيد، بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: بينا أمير المؤمنين (عليه السلام) يخطب على منبر الكوفة إذ قام إليه رجل يقال له «ذعلب» ذرب اللسان، بليغ في الخطاب، شجاع القلب فقال: يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك؟ فقال: ويلك يا ذعلب لم أكن لأعبد ربا لم أره!. فقال: يا أمير المؤمنين كيف رأيته؟ قال: يا ذعلب لم تره العيون بمشاهدة الأبصار، و لكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، ويلك يا ذعلب إن ربي لطيف اللطافة فلا يوصف باللطف، عظيم العظمة لا يوصف بالعظم، كبير الكبرياء لا يوصف بالكبر، جليل الجلالة لا يوصف بالغلظ، قبل كل شيء لا يقال شيء قبله، و بعد كل شيء لا يقال له بعد، شاء الأشياء لا بهمة، دراك لا بخديعة، هو في الأشياء غير متمازج بها و لا بائن، عنها ظاهر لا بتأويل المباشرة، متجل لا باستهلال رؤية، بائن لا بمسافة، قريب لا بمداناة، لطيف لا بتجسم، موجود لا بعد عدم، فاعل لا باضطرار، مقدر لا بحركة، مريد لا بهمامة، سميع لا بآلة، بصير لا بأداة، لا تحويه الأماكن، و لا تصحبه الأوقات، و لا تحده الصفات، و لا تأخذه السنات، سبق الأوقات كونه، و العدم وجوده، و الابتداء أزله، بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له، و بتجهيره الجواهر عرف أن لا جوهر له، و بمضادته بين الأشياء عرف أن لا ضد له، و بمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له، ضاد النور بالظلمة، و الجسوء بالبلل، و الصرد بالحرور، مؤلف بين متعادياتها، مفرق بين متدانياتها، دالة بتفريقها على مفرقها، و بتأليفها على مؤلفها، و ذلك قوله عز و جل: «و من كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون»، ففرق بها بين قبل و بعد ليعلم أن لا قبل له و لا بعد، شاهدة بغرائزها أن لا غريزة لمغرزها، مخبرة بتوقيتها أن لا وقت لموقتها، حجب بعضها عن بعض ليعلم أن لا حجاب بينه و بين خلقه غير خلقه، كان ربا و لا مربوب، و إلها إذ لا مألوه، و عالما إذ لا معلوم، و سميعا إذ لا مسموع. ثم أنشأ يقول: و لم يزل سيدي بالحمد معروفا. و لم يزل سيدي بالجود موصوفا. و كان إذ ليس نور يستضاء به. و لا ظلام على الآفاق معكوفا. فربنا بخلاف الخلق كلهم. و كل ما كان في الأوهام موصوفا. الأبيات. أقول: و كلامه (عليه السلام) كما ترى مسوق لبيان معنى أحدية الذات في جميع ما يصدق عليه و يرجع إليه، و أنه تعالى غير متناهي الذات و لا محدودها، فلا يقابل ذاته ذات و إلا لهدده بالتحديد و قهره بالتقدير، فهو المحيط بكل شيء، المهيمن على كل أمر، و لا يلحقه صفة تمتاز عن ذاته، فإن في ذلك بطلان أزليته و عدم محدوديته. و إن صفته تعالى الكمالية غير محدودة بحد يدفع الغير أو يدفعه الغير كما أن العلم فينا غير القدرة لما بينهما من المدافعة مفهوما و مصداقا، و لا تدافع بينهما فيه تعالى، بل الصفة عين الصفة و عين كل صفة من صفاته العليا و الاسم عين كل اسم من أسمائه الحسنى. بل إن هنالك ما هو ألطف معنى و أبعد غورا من ذلك و هو أن هذه المعاني و المفاهيم للعقل بمنزلة الموازين و المكاييل يوزن و يكتال بها الوجود الخارجي و الكون الواقعي فهي حدود محدودة لا تنعزل عن هذا الشأن و إن ضممنا بعضها إلى بعض، و استمددنا من أحدها للآخر، لا يغترف بأوعيتها إلا ما يقاربها في الحد، فإذا فرضنا أمرا غير محدود ثم قصدناه بهذه المقاييس المحدودة لم ننل منه إلا المحدود و هو غيره، و كلما زدنا في الإمعان في نيله زاد تعاليا و ابتعادا. فمفهوم العلم مثلا هو معنى أخذناه من وصف محدود في الخارج نعده كمالا لما يوجد له، و في هذا المفهوم من التحديد ما يمنعه أن يشمل القدرة و الحياة مثلا، فإذا أطلقناه عليه تعالى ثم عدلنا محدوديته بالتقييد في نحو قولنا: علم لا كالعلوم فهب أنه يخلص من بعض التحديد لكنه بعد مفهوم لا ينعزل عن شأنه و هو عدم شموله ما وراءه و لكل مفهوم وراء يقصر عن شموله و إضافة مفهوم إلى مفهوم آخر لا يؤدي إلى بطلان خاصة المفهومية، و هو ظاهر. و هذا هو الذي يحير الإنسان اللبيب في توصيفه تعالى بما يثبته له لبه و عقله، و هو المستفاد من قوله (عليه السلام): «لا تحده الصفات» و من قوله فيما تقدم من خطبته المنقولة: «و كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه» و قوله أيضا في تلك الخطبة: «الذي ليس لصفته حد محدود، و لا نعت موجود» و أنت ترى أنه (عليه السلام) يثبت الصفة في عين أنه ينفيها أو ينفي حدها، و من المعلوم أن إثباتها هي لا تنفك عن الحد فنفي الحد عنها إسقاط لها بعد إقامتها، و يئول إلى أن إثبات شيء من صفات الكمال فيه لا ينفي ما وراءها فتتحد الصفات بعضها مع بعض ثم تتحد مع الذات و لا حد، ثم لا ينفي ما وراءها مما لا مفهوم لنا نحكي عنه، و لا إدراك لنا يتعلق به فافهم ذلك. و لو لا أن المفاهيم تسقط عند الإشراف على ساحة عظمته و كبريائه بالمعنى الذي تقدم لأمكن للعقل أن يحيط به بما عنده من المفاهيم العامة المبهمة كوصفه بأنه ذات لا كالذوات، و له علم لا كالعلوم، و قدرة لا كقدرة غيره، و حياة لا كسائر أقسام الحياة، فإن هذا النحو من الوصف لا يدع شيئا إلا أحصاه و أحاط به إجمالا فهل يمكن أن يحيط به سبحانه شيء؟ أو أن الممنوع هو الإحاطة به تفصيلا، و أما الإحاطة الإجمالية فلا بأس بها؟ و قد قال تعالى: «و لا يحيطون به علما»: «طه: 101»، و قال: «ألا أنه بكل شيء محيط»: «حم السجدة: 54»، و الله سبحانه لا يحيط به شيء من جهة من الجهات بنحو من أنحاء الإحاطة، و لا يقبل ذاته المقدسة إجمالا و تفصيلا حتى يتبعض فيكون لإجماله حكم و لتفصيله حكم آخر فافهم ذلك. و في الإحتجاج، عنه (عليه السلام) في خطبة: «دليله آياته، و وجوده إثباته، و معرفته توحيده، و توحيده تمييزه من خلقه، و حكم التمييز بينونة صفة لا بينونة عزلة إنه رب خالق، غير مربوب مخلوق، ما تصور فهو بخلافه ثم قال (عليه السلام): ليس بإله من عرف بنفسه، هو الدال بالدليل عليه، و المؤدي بالمعرفة إليه».
أقول: التأمل فيما تقدم يوضح أن الخطبة مسوقة لبيان كون وحدته تعالى وحدة غير عددية لصراحته في أن معرفته تعالى عين توحيده أي إثبات وجوده عين إثبات وحدته، و لو كانت هذه الوحدة عددية لكانت غير الذات فكانت الذات في نفسها لا تفي بالوحدة إلا بموجب من خارج عن جهة ثبوت الذات.
و هذا من عجيب المنطق و أبلغ البيان في باب التوحيد الذي يحتاج شرحه إلى مجال وسيع لا يسعه طراز البحث في هذا الكتاب، و من ألطف المقاصد الموضوعة فيه قوله (عليه السلام): «وجوده إثباته» يريد به أن البرهان عليه نفس وجوده الخارجي أي أنه لا يدخل الذهن، و لا يسعه العقل.
قوله: «ما تصور فهو بخلافه» ليس المراد به أنه غير الصورة الذهنية فإن جميع الأشياء الخارجية على هذا النعت، بل المراد أنه تعالى بخلاف ما يكشف عنه التصور الذهني أيا ما كان، فلا يحيط به صورة ذهنية، و لا ينبغي لك أن تغفل عن أنه أنزه ساحة حتى من هذا التصور أعني تصور أنه بخلاف كل تصور.
و قوله: «ليس بإله من عرف بنفسه» مسوق لبيان جلالته تعالى عن أن يتعلق به معرفة، و قهره كل فهم و إدراك فإن كل من يتعلق بنفسه معرفتنا هو في نفسه غير نفسنا و معرفتنا ثم يتعلق به معرفتنا، لكنه تعالى محيط بنا و بمعرفتنا، قيم على ذلك فلا معصم تعتصم به أنفسنا و لا معرفتنا عن إحاطة ذاته و شمول سلطانه حتى يتعلق به تعلق منعزل بمنعزل.
و بين (عليه السلام) ذلك بقوله: «هو الدال بالدليل عليه و المؤدي بالمعرفة إليه» أي أنه تعالى هو الدليل يدل الدليل على أن يدل عليه، و يؤدي المعرفة إلى أن يتعلق به تعالى نوع تعلق لمكان إحاطته تعالى و سلطانه على كل شيء، فكيف يمكن لشيء أن يهتدي إلى ذاته ليحيط به و هو محيط به و باهتدائه؟.
و في المعاني، بإسناده عن عمر بن علي عن علي (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «التوحيد ظاهره في باطنه، و باطنه في ظاهره، ظاهره موصوف لا يرى، و باطنه موجود لا يخفى، يطلب بكل مكان، و لم يخل عنه مكان طرفة عين، حاضر غير محدود، و غائب غير مفقود».
أقول: كلامه (صلى الله عليه وآله وسلم) مسوق لبيان وحدته تعالى غير العددية المبنية على كونه تعالى غير محدود بحد، فإن عدم المحدودية هو الموجب لعدم انعزال ظاهر توحيده و توصيفه تعالى عن باطنه، و باطنه عن ظاهره فإن الظاهر و الباطن إنما يتفاوتان و ينعزل كل منهما عن الآخر بالحد فإذا ارتفع الحد اختلطا و اتحدا.
و كذلك الظاهر الموصوف إنما يحاط به، و الباطن الموجود إنما يخفى و يتحجب إذا تحددا فلم يتجاوز كل منهما حده المضروب له، و كذلك الحاضر إنما يكون محدودا مجموعا وجوده عند من حضر عنده، و الغائب يكون مفقودا لمكان المحدودية، و لو لا ذلك لم يجتمع الحاضر بتمام وجوده عند من حضر عنده، و لم يستر الغائب حجاب الغيبة و لا ساتر دونه عمن غاب عنه، و هو ظاهر.
بحث تاريخي
القول بأن للعالم صانعا ثم القول بأنه واحد من أقدم المسائل الدائرة بين متفكري هذا النوع تهديه إليه فطرته المركوزة فيه، حتى أن الوثنية المبنية على الإشراك، إذا أمعنا في حقيقة معناها وجدناها مبنية على أساس توحيد الصانع، و إثبات شفعاء عنده ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى و إن انحرفت بعد عن مجراها، و آل أمرها إلى إعطاء الاستقلال و الأصالة لآلهة دون الله.
و الفطرة الداعية إلى توحيد الإله و إن كانت تدعو إلى إله واحد غير محدود العظمة و الكبرياء ذاتا و صفة - على ما تقدم بيانه بالاستفادة من الكتاب العزيز - غير أن ألفة الإنسان و أنسه في ظرف حياته بالآحاد العددية من جانب، و بلاء المليين بالوثنيين و الثنويين و غيرهم لنفي تعدد الآلهة من جانب آخر سجل عددية الوحدة و جعل حكم الفطرة المذكورة كالمغفول عنه.
و لذلك ترى المأثور من كلمات الفلاسفة الباحثين في مصر القديم و اليونان و إسكندرية و غيرهم ممن بعدهم يعطي الوحدة العددية حتى صرح بها مثل الرئيس أبي علي بن سينا في كتاب الشفاء، و على هذا المجرى يجري كلام غيره ممن بعده إلى حدود الألف من الهجرة النبوية.
و أما أهل الكلام من الباحثين فاحتجاجاتهم على التوحيد لا تعطي أزيد من الوحدة العددية أيضا في عين أن هذه الحجج مأخوذة من الكتاب العزيز عامة فهذا ما يتحصل من كلمات أهل البحث في هذه المسألة.
فالذي بينه القرآن الكريم من معنى التوحيد أول خطوة خطيت في تعليم هذه الحقيقة من المعرفة، غير أن أهل التفسير و المتعاطين لعلوم القرآن من الصحابة و التابعين ثم الذين يلونهم أهملوا هذا البحث الشريف، فهذه جوامع الحديث و كتب التفسير المأثورة منهم لا ترى فيها أثرا من هذه الحقيقة لا ببيان شارح، و لا بسلوك استدلالي.
و لم نجد ما يكشف عنها غطاءها إلا ما ورد في كلام الإمام علي بن أبي طالب عليه أفضل السلام خاصة، فإن كلامه هو الفاتح لبابها، و الرافع لسترها و حجابها على أهدى سبيل و أوضح طريق من البرهان، ثم ما وقع في كلام الفلاسفة الإسلاميين بعد الألف الهجري، و قد صرحوا بأنهم إنما استفادوه من كلامه (عليه السلام).
و هذا هو السر في اقتصارنا في البحث الروائي السابق على نقل نماذج من غرر كلامه (عليه السلام) الرائق، لأن السلوك في هذه المسألة و شرحها من مسلك الإحتجاج البرهاني لا يوجد في كلام غيره (عليه السلام).
و لهذا بعينه تركنا عقد بحث فلسفي مستقل لهذه المسألة فإن البراهين الموردة في هذا الغرض مؤلفة من هذه المقدمات المبينة في كلامه لا تزيد على ما في كلامه بشيء، و الجميع مبنية على صرافة الوجود و أحدية الذات جلت عظمته.
|