تمثل القافية عود الشاعر وربابته في الحضر والبدو، يطاوع أوتارها بأنامل مخيلته وشاعريته، فتنفذ الأنغام الى المسامع بلا استئذان، فتتمايل أغصان النفس حيث تميل القافية بأغراضها الشعرية، دائرة بأصدائها وبضاعتها على محافل العشاق ونوادي المديح ومآتم التوجع وحانات الهجاء وميادين الرجز ودوائر التاريخ، وحيثما دارت الأغراض الشعرية دارت رحى النفوس تشوقاً أو تململاً. والشعر من حيث هو نظم كعقد اللؤلؤ المنضود، أدب رفيع المستوى، والنثر من حيث هو تنظيم للكلمات المنتقاة، أدب بالغ السمو، لكن الشاعر أديب بالفطرة وليس الأديب شاعراً بالفطرة، ولذلك علا كعب الشاعر في سوق الأدب ولم تبر بضاعته وإن قلّت منه الصدور والأعجاز، حيث لم تخل بضاعته من الصدارة والإعجاز، فالشعر النابض بالإحساس بطارية ذاتية الشحن لا تنفد، تشحن متلقيها في كل حين وآن، وإن علا جبلاً أو هبط وادياً أو امتطى راحلة او مخر عباب بحر. وقد يُساء فهم الشعر من حيث الإنشاء والإنشاد في نظمه المتعدد الأبعاد، وقد يضرب الشاعر بألف حجارة من سجيل وهو يهيم في واديه السحيق المتعدد الأذرع والآماد، لكن الشعر الحي يظلّ في عالم الأدب سامقاً مشرئباً بعنقه، يأخذ بمقود الكلمة حيث أراد، يصيب هدفه من حيث تخطئ أبابيل النقاد في رميه بالحاد من كل كلام جارح، وشرطة السلطان في رميه بالخارق من كل سهم مارق. ولعل أول الإساءة الى الشعر والشعراء ومن يسبّح بمسبحة النظم، إساءة الفهم الى نصوص القرآن والسنة، فتارة تضع بعض الاجتهادات الشاعر تحت شموع القدح فتسمل عينيه لا تكاد تنفعه شمعة، وإن كانت جل قصائده مصابيح في ساحة الأدب، وتارة تضعه تحت مشاعل المدح فترفعه الى سدرة منتهى الأدب وإن جاء بالمبتذل من الشعر وأساء الأدب الى ساحة الأدب، فلا تنفعه المنزلة حيث لا براق يعرج به الهوينى، فلا التفريط ينفع الشاعر ولا الإفراط، فالشاعر حيث هو شاعر ناطق عما يجيش في صدره، فإن نطق عن الحق نطق صدقا وإن نطق عن الباطل نطق كذبا، والنفس تواقة الى الصدق وإن أعجبها المزوق من الكلام الخطل. وحتى نرى هوية الشاعر على حقيقتها وشخصية الشعر من حيث التاريخ والأغراض والمدارس، والموقف الشرعي من النظم وصولا الى النظم الحسيني، وما يكتنف هذا العنوان العريض من عناوين فرعية لا تقل أهمية، فان البحاثة والعروضي آية الله الدكتور محمد صادق محمد الكرباسي يضعنا بالصورة الرباعية الأبعاد، في كتابه الجديد (المدخل الى الشعر الحسيني) في جزئه الثاني الصادر العام 2008 م عن المركز الحسيني للدراسات بلندن في 620 صفحة من القطع الوزيري.
أغراض متنوعة
يوصَف الشاعر بأنه صنو الرسام، فكما أن الرسام يرسم على ورقة أو قطعة قماش ما يرتسم في ذهنه من خيوط الوصف للمشهد الخارجي، فتأتي اللوحة ناطقة بتوقيع الرسام، فإن الشاعر يرسم بفرشاة القافية ما شاهدته عيون وجدانه، فتنطق القصيدة عبر حبال أوتاره الشعورية وصف الحالة، على أن الشاعر يرسم الصورة بمنظار الداخل في حين يرسمها التشكيلي بمنظار الخارج، فتدخل الأولى القلب من أقصر الطرق. إذن فالوصف كما يقول المؤلف تحت مبحث الأغراض الشعرية: (هو المحور الأساس للشعر.. والشعر في الحقيقة فن الوصف)، ومنه تتفرع بقية الأغراض الشعرية، على أن الشاعر بشكل عام يرفض التقوقع في نطاق واحد من الأغراض الشعرية، لأنها تتجدد عند الشاعر المبدع كتجدد الماء في النهر الجاري، كما أن الأدب بعامة والشعر بخاصة يقسم حسب الدوائر التي يدور في مساراتها الأديب أو الشاعر، فهناك أدب الثورة وأدب المرأة، وأدب المناسبات وأدب الملحمة وأدب التاريخ، والأغراض الشعرية كلها تتداخل في هذه الدوائر، قد تلتقي وقد تتقاطع.
شعر الغزل
ربما كان تغزّل الشاعر في مطالع قصائده بذات اللواحظ القاتلة والكواعب المرجفة وذات الأستار والخدور وجرّ الذيول، هو ما حدا بالبعض الى رفض الشعر بعضاً او كلاً، لكن المؤلف ينظر بعين الفقاهة، ويرى أن الرفض تنقصه المساند الشرعية الداعمة، لأن الغزل على نوعين: نوع فيه تحديد للمتغزل به، ونوع ليس فيه تحديد، فالأول لا شك في حرمته إذا كانت معروفة ومحترمة في نظر الشرع، بل ذهب جمع من الفقهاء الى القول بجواز تغزل الرجل بزوجته وجواز التغزل بالمرأة المجهولة أيضا، وهذا التغزل جاء به الشعراء من الأدباء والفقهاء والصلحاء والأتقياء، وعليه فيخلص الفقيه الكرباسي الى أن: (مجرد التغزل بالجنس اللطيف من دون تحديد شخصية معينة لا حرمة فيه، كما لا شك بأن التعرض لمفاتن امرأة مؤمنة فيما اذا كانت أجنبية عن الانسان حرام). ويأخذ المؤلف على اولئك الذي يقطعون بحرمة الغزل كليا، ويرى أن استدلالاتهم منقوصة الشواهد، بل العكس هو الصحيح، ففي القرآن والسنة وعمل الفقهاء ما يدعم القول بحلية شعر الغزل، فمن القرآن نقرأ العشرات من الآيات في وصف المرأة ومحاسنها وحور العين ومفاتنها، أما محل النزاع فهو فيما اذا كان الوصف مآلاً الى الفساد، والعقل قبل الشرع يحكم بحرمة الفساد، ويرفض المؤلف تطبيق مفهوم الفاحشة على الغزل في قوله تعالى: (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة) [النور: 19]، لأن وصف الجمال لا يعد من الفاحشة إلا في موارد خاصة، وإلا لما وصف القرآن جمال الحور العين وحسنهن في قوله تعالى: (فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان * كأنهن الياقوت والمرجان * فيهن خيرات حسان * حور مقصورات في الخيام * لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان * متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان) [الرحمن: 56، 58، 70، 72، 74، 76]. ولو كان الغزل محرماً لما ارتضاه الرسول محمّد (صلى الله عليه وآله) عندما كان الشعراء ينشدونه عنده، بل كان يكرمهم زيادة في تعظيم الشاعر ومكانته، فماذا عسى المرء أن يقول في بانت سعاد لكعب بن زهير المازني (ت 26هـ)، بعد أن كان مهدور الدم لهجائه الإسلام والرسول محمد (صلى الله عليه وآله)، وهو ينشد من البسيط: بانت سعاد فقلبي اليوم متبولُ * متيم اثرها لم يُفدَ مكبولُ ويلاحَظ هنا أن الرسول (صلى الله عليه وآله) عفى عن كعب ونظرائه من الشعراء الذين ناصبوا الاسلام العداء بشعرهم، لأن صاحب الرسالة يدرك جيداً أهمية الشعر وتأثيراته القوية التي تكون في بعض الأحيان أحدّ من شفرة السيف، وهو في الوقت نفسه يقدّر مكانة الشاعر بين قومه ومجتمعه، وهذا ينبيك أن نبيّ الإسلام إنما جاء رحمة للعالمين وهو صاحب رسالة محبة وسلام، ولا يفرط في طاقات الامة وكفاءاتها حتى وإن كانت من أقطاب النظام السابق حسب مصطلحات اليوم، وهذا ما ينبغي أن تدركه كل سلطة حديثة، وأن تأخذ بسنة الرسول (صلى الله عليه وآله) في هذا السبيل، وأن يكون العفو عند المقدرة هو ديدنها شريطة أن ترضي في الوقت نفسه شرائح المجتمع المتضررة، لأن الحكم يدوم مع العفو والسماحة وينهار مع الثأر والاستباحة. وماذا عسى المرء أن يقول فيما ينسب لسبط النبي الإمام الحسين بن علي (عليه السلام) في زوجته الرباب وابنته سكينة، من بحر الوافر: لعمرك إنني لأحبُّ داراً * تحل بها سكينة والرباب ولو كان الغزل النزيه محرماً لما نظم فيه عليّة فقهاء المسلمين، من حيث أن الناس يأخذون عن الفقيه الفتيا، فهذا مفتي المدينة المنورةعبيد الله بن عبد الله العُتبي (ت 98 م) يخاطب الحبيبة، من بحر الطويل: أحبك حباً لو علمتِ ببعضه* لجُدتِ ولم يصعب عليك شديدُ وهذا فقيه المدينة المنورة ومحدثها عروة بن أذينة (توفي نحو 130 هـ) يناجي التي يهواها، من بحر الطويل: إن التي زعمت فؤادك ملّها * خلقت هواك كما خلقت هوى لها وماذا عن لأم عمرو لإسماعيل بن محمد الحِمْيَري (ت 173 هـ) التي أنشدها في محضر حفيد الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام)، من بحر السريع: لأم عمرو في اللوا مربعُ * طامسة أعلامها بلقعُ وهذا إمام المالكية أبو عبد اللهمالك بن أنس الأصبحي (ت 179)، ينشد من الهزج: سُليمى أجمعت بينا * فأين لقاؤها أينا وقد قالت لأترابٍ * لها زُهرٌ تلاقينا تعالين فقد طال * لنا العيش تعالينا وهذا فقيه بغدادالشريف المرتضىعلي بن الحسين الموسوي البغدادي (ت 436 هـ) ينشد للعواذل، من مجزوء الكامل: بيني وبين عواذلي * في الحب أطراف الرماح أنا خارجي في الهوى * لا حكم إلا للملاح وهذا فقيه الشام بهاء الدين محمد بن حسين العاملي (ت 1013 هـ) يغازل مائسته، من بحر الطويل: ومائسة الأعطاف تستر وجهها * بمعصمها الله كم هتكت سترا أرادت لتخفي فتنة من جمالها * بمعصمها فاستأنفت فتنة أخرى وهذا فقيه كربلاء المقدسة نصر الله بن الحسين الموسوي الحائري (ت 1154 هـ) يغازل المحبوب من بحر الكامل: لما تبدى في القباء الأصفر * كالشمس في شفق الصباح المسفر وهذا فقيه النجف الأشرف محمد سعيد بن محمود الحبوبي (ت 1333 هـ)، يغازل المحبوبة من البسيط: جاءت وليس لها غير الحُلي واشي * والوشي إذ قبلت في سيرها فاشي ونجلة من نساء الحي لو سفرت * فللنواظر منها نظرة العاشي
مفردات متنوعة
ونظم الشعر عنوان عام، تتجلى في قصائد الشعراء عناوين كثيرة، فهذه قصيدة هجاء وتلك مديح وثالثة رثاء، وهلم جرا، هذه العناوين وغيرها يبحثها العروضي الكرباسي في مباحث كثيرة، وكل عنوان له تفريعات متنوعة، من قبيل الرثاء، فهو ينطوي على الندب والتأبين والعزاء والعديد والنعي، ولكل مجتمع مسميات قد تشترك مع مسميات مجتمع آخر أو تفترق عنها، ولكنها في نهاية المطاف تصب في أدب الرثاء، فهذا أبو البقاء صالح بن يزيد الرندي الأندلسي (ت 684 هـ)، يندب من البسيط، سقوط أجزاء من الأندلس: اسأل بلنسية ما شأن مرسية * وأين شاطبة أم أين جيّانُ وأين قرطبة دار العلوم فكم * من عالم قد سما فيها له شانُ وربما توقف البعض عند شرعية سماع الرثاء من المرأة على ميت أو عزيز، وربما ذهب البعض الى الحرمة، وعند الفقيه الكرباسي ظاهره الجواز إن لم يكن من الخضوع بالقول المنهي عنه في قوله تعالى: (فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض) [الأحزاب: 22]، وعنده: لا دليل على حرمة مطلقة الاستماع الى قولها، ومن قال بالحرمة استثنى الضرورات العرفية مثلما يحدث أن النساء ترثي الآباء والأقارب وهن في حال الجزع والحزن. ومن المفردات الشعرية الهجاء، وعند الفقيه الكرباسي أن الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) استخدمه في هجاء المشركين، كما استخدمه الامام علي (عليه السلام) أثناء حكومته، بوصف الهجاء من أساليب الحرب الدعائية. ومن المفردات الشعرية: الحدي والروضة والتذييل والتشطير والمسمطات والتوشيح والقافية والتصريع والتقفية والأقواء والقريض، وغير ذلك يتناولها الكتاب في مباحث مستقلة مع شواهد من الشعر.
شرعية النظم
قد يكون الحديث عن شرعية نظم الشعر مما قد فاته قطار البحث والتحقيق، واستقر على حليته بشكل عام، ولكن البعض لا يزال يتمسك بتفسير ربما يكون خاطئا في فهم النصوص، ومن ذلك نص القرآن الكريم: (والشعراء يتبعهم الغاوون) [الشعراء: 224] وما بعدها من الآيات، لكن الفقيه الكرباسي يرى أن الآية تشمل فقط أولئك الشعراء الذين لا يتورعون عن الطعن بالآخرين وهجائهم، ويقومون بالكذب وبث التهم وما الى ذلك، فإنهم بذلك مذمومون، وعليه فإذا تجنبوا ذلك فالذم لا يشملهم، حيث إنهم لا يتصفون بما ورد عنهم في كلام الله جل وعلا. وفي الواقع مع وجود أحاديث تحط من قدر الشعر، لكنها في مجملها تؤاخذ على الشعر غير الملتزم الذي يتعرض لغير الحق والحقيقة، وإلا هناك من النصوص ما تثبت الشعر ونظمه وتنزل من الشاعر منازل عالية من السمو والرفعة، ويكفي أن سيرة النبي وأهل البيت (عليهم أفضل الصلاة والسلام) والصحابة ماضية في تكريم الشعر والشعراء، فهذه زوج النبيعائشة بنت أبي بكر التيمي (ت نحو 58 هـ) تروي قول النبي محمد (صلى الله عليه وآله) للشاعر حسان بن ثابت: إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله، وقال (صلى الله عليه وآله) له كذلك: لا تزال يا حسان مؤيداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك، وذلك بعدما انتهى من إنشاد شعره في بيعة الغدير عام 10 للهجرة، حيث أنشد في الإمام علي (عليه السلام)، من الطويل: يناديهم يوم الغدير نبيهم * بخم واسمع بالنبي مناديا إلى ان يقول: فقال له: قم يا علي فإنني * رضيتك من بعدي إماماً وهادياً فمن كنت مولاه فهذا وليه * فكونوا له اتباع صدق موالياً وكانت زوج النبي حفصة بنت عمر بن الخطاب العدوي (ت 41 هـ) تنشد الشعر عند زفاف فاطمة الزهراء (عليها السلام)لعلي بن أبي طالب، فتقول من السريع: فاطمة خير نساء البشر * ومن لها وجه كوجه القمر فضّلكِ الله على كل الورى * بفضل من خُصَّ بآي الزمر زوّجكِ الله فتى فاضلاً * أعني علياً خير من في الحضر فسرن جاراتي بها إنها * كريمة بنت عظيم الخطر وهناك الكثير من الأسماء والشعراء ممن أنشد في حضرة الرسول محمّد (صلى الله عليه وآله)، من ذلك: أبو طالب بن عبد المطلب الهاشمي، حمزة بن عبد المطلب، أعشى قيس ميمون بن قيس الوائلي، جعفر بن أبي طالب، عبد الله بن رواحة الخزرجي، أبو جرول زهير بن صرد الجشمي، سواد بن قارب الدوسي، الخنساء بنت عمرو السليمية، حميد بن ثور الهلالي، العباس بن عبد المطلب الهاشمي، علي بن أبي طالب، وغيرهم. على أن الرسول أنشد الشعر في مواضع عدة، بل يذهب الدكتور الكرباسي الى رفض الرأي السائد ان الرسول إذا كان يريد نقل الشعر أي إنشاده كان يحرفه قليلا حتى لا ينسب اليه قول الشعر، واستدلاله في ذلك أنه ثبت خلافه، والمورد الواحد لا يخصص، وبالأخص اذا كانت روايته مرسلة ونقل خلافه أيضا، بل يذهب بعيدا الى التأكيد على فرض ذلك، فانه بحد ذاته دال على ذوقه الشعري وقدرته على التبديل، وكذلك يرفض قول البعض ان ما كان ينشده الرسول (صلى الله عليه وآله) هو الرجز والرجز لا يعد من الشعر، وعلى صحة القول فقد ثبت انشاد الرسول لغير الرجز. يضاف الى ذلك أن أئمة أهل البيت (عليهم أفضل الصلاة والسلام) ليس فقط لم يمنعوا الشعراء من النظم بل شجعوا عليه، باعتبار أن الشعر وسيلة من وسائل الإعلام وإظهار الحق وإبطال الباطل. وخلاصة القول في الشعر ونظمه كما يرى الفقيه الكرباسي: إن الشعر كسائر الكلام بل كسائر الأعمال، لا يمكن الحكم عليه بالإطلاق، بل هو الآخر يخضع حسب ما يحتويه من المعاني والأغراض الى الأحكام الخمسة: من الحرمة والكراهة والإباحة والإستحباب وحتى الوجوب تارة، كما هو الحال فيما حدث مع شعراء الرسول (صلى الله عليه وآله) في حربهم مع المشركين، حيث كانوا ينفذون ما أمر به الرسول (صلى الله عليه وآله) وابن عمه علي بن أبي طالب (عليه الصلاة والسلام) في حرب صفين، وأما الشعر بحد ذاته فلا غبار على جوازه.
ملاك الشعر وشيطانه
ولا يخفى أن النظم في الرسول الأكرم وأهل بيته الكرام (عليهم السلام) مما لقي تشجيعاً كبيراً من الرسالة الاسلامية، لان تخليد هذه الشخصيات العظيمة هو في واقع الحال تخليد للقيم التي بشّروا بها، والخصال الحميدة التي تحلّوا بها، والرسالة السمحاء التي أتوا بها لإخراج الناس من ظلمات الجبت والطاغوت والإنطلاق بهم الى شواطئ السلام والرفاه، وقد ورد عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام): ما قال فينا قائل بيت شعر حتى يؤيد بروح القدس. والمفيد ذكره هنا أنه حينما يتم الحديث عن روح القدس يقفز الى الأذهان المفهوم السائد لدى معشر الأدباء عن (شيطان الشعر)، وأن للشاعر شيطاناً يلقنه الشعر، ويعتقد المؤلف أن الشيطان هنا هو بمعنى المهارة والحذاقة، فالموروث الشعبي يستخدم مصطلح الشيطان عندما يراد وصف إنسان ماهر او ذكي وفنان، والشعر من الفن الذي لا يقدر عليه كل إنسان، ولذلك يصح عند الكرباسي القول عن الشعر الذي يحمل في طياته الخير الى هذا المجتمع إن من ورائه ملكا يلقن ناظمه، كما يصح القول عن الشعر الذي يحمل الشر في طبق من الذهب لمجتمعه إن من ورائه شيطاناً يلقنه ذلك، وقد قال الله تبارك وتعالى: (إن الشياطين ليوحون الى أوليائهم) [الأنعام: 121]. ويعظم النظم في الإمام الحسين (عليه السلام) بوصفه حامل مشعل الرسالة الإسلامية، وهو الذي أنقذها من التحريف والضياع، ولولا الدماء الزاكيات التي أريقت على تراب كربلاء لما عرفنا الحق من الباطل، ولانهارت أركان الإسلام وأًصبح الناس هملا، والدين على ألسنتهم لعقا يدورون ما درّت معايشهم، وقد ورد عن الامام الصادق (عليه أزكى السلام): ما من أحد قال في الحسين شعراً فبكى وأبكى به إلا أوجب الله له الجنة وغفر له، وفي بعض الروايات: أو تباكى فله الجنة. على أن الشعر الحسيني يمتاز بخصائص كثيرة، أهمها: الإيمان بالمبادئ والقيم، الموضوعية، الذاتية، والعقيدة، فهذه الخصائص هي التي جعلت الشعر الحسيني ينشط في كل مناحي الحياة الأدبية، وحسب تعبير الأديب والأكاديمي العراقي الدكتور إبراهيم بن عبد الزهراء العاتي: يشكّل الشعر الحسيني ظاهرة متميزة في الشعر العربي قديمه وحديثه، ولم أجد قضية شغل بها الشعراء العرب وتفاعلوا معها بتجرد خالص وإيمان مبرأ من كل الدوافع التي قد تحرك الظواهر الأخرى في الشعر العربي كالمديح والهجاء وغيرهما مثل قضية الإمام الحسين (عليه السلام)ومأساة كربلاء، التي استجاب الشعراء للكتابة فيها منذ وقوعها عام 61 هـ وحتى اليوم. وفي الواقع أن لنهضة الامام الحسين (عليه السلام) الأثر الكبير في إنعاش الأدب بعامة والشعر بخاصة، ولهذا لم ينظم في شخصية سامية مثلما نظم في الامام الحسين (عليه السلام)، لأن القضية الحسينية دخلت في ضمير الإنسان ووجدانه بغض النظر عن جنسيته ومعتقداته، وعند البعض أن الإمام الحسين لم يصن الإسلام فحسب بل صان الوحدة العربية، كما يقول الشاعر المصري المعاصر محمود إبراهيم: وحدة العرب كم رعاها حسين * وغذتها من الحسين الدماء وهي اليوم في النفوس رجاء * ويح قومي متى يصح الرجاء
شعر الوطن والمهجر
ولقد حرص المؤلف على تقسيم المدارس الشعرية حسب الأقطار العربية وتحليلها، مع الإشارة الى الاتجاه الحسيني بشكل خاص، مع ذكر عينات من شعر الشعراء، من قبيل الشاعر حسن بن علي شمس الدين المولود عام 1381هـ (الإمارات)، إبراهيم بن عبد الحسين العريض المتوفى عام 1422هـ (البحرين)، محمد العربي صمادح المتوفى عام 1418هـ (تونس)، عبد العزيز بن مختار شبّين المولود عام 1389هـ (الجزائر)، محمد سعيد بن علي الخنيزي المولود عام 1343هـ (السعودية)، عبد الله بن عبد الله الطيب المتوفى بعد عام 1420هـ (السودان)، جميل بن علي حسن المولود عام 1351هـ (سوريا)، محمد مهدي بن عبد الحسين الجواهري المتوفى عام 1418هـ (العراق)، عبد الله بن علي السدراني المولود عام 1335هـ (عُمان)، دعد بنت عبد الحي الكيالي المولودة عام 1349هـ (فلسطين)، حسن بن حسين النعمة المولود عام 1362هـ (قطر)، عبد العزيز بن علي العندليب المتوفى عام 1424هـ (الكويت)، خليل بن مصطفى عكاش الموسوي المولود عام 1360هـ (لبنان)، عيسى بن أيوب الباروني المتوفى عام 1428هـ (ليبيا)، محمود إبراهيم (مصر)، جلول بن محمد اليعقوبي دكداك المولود عام 1383هـ (المغرب)، محمد بويا بن محمد فال المولود عام 1390هـ (موريتانيا)، ومحمد بن يحيى بلابل المولود عام 1389هـ (اليمن). كما بحث في عنوان مستقل ومستفيض شعر المهجر، وتقسيمات المهاجر الأدبية، من حيث المهجر الشرقي والغربي، والتأثير المتبادل بين المهجر والبلد الأصلي للشاعر، وعلاقة ذلك بطبيعة النظم والأغراض الشعرية.
شعر المذاهب والأديان
وحيث كان الإمام الحسين (صلوات الله عليه) صاحب نهضة أعادت للأمة الإسلامية كرامتها وللإنسانية رونقها، وميزت الحق من الباطل، وقادت النفوس الى التحرر من أسر الظالمين في أي زمان ومكان، فكان الحسين (عليه السلام) حاضراً في قلب الأدب العالمي، وبخاصة النظم الذي يمثل قمة أدب كل امة وسنامه، وفي هذا المعنى يقول شاعر الروم الأرثوذكس حليم دموس، من البسيط: وحي السماء أتاكم وهو رابطه * لكل شعب بذكر الحق نجواه هذا ابن فاطمة الزهراء مفخرة * للعرب ما بين دنياه وأخراه وبالطبع فإن التقسيم المذهبي للشعر الحسيني، إنما هو إظهار محورية الإمام الحسين التي استطاع أن يستهوي قلوب المسلمين بكل مذاهبهم، إضافة الى الأديان الأخرى، فالفقيه الكرباسي من دعاة التقارب، بل يدعو الى وضع الحلول الجذرية لرفع هذه الخلافات بالمناقشات البناءة من قبل اختصاصيين مخلصين، وقبول الآخر من باب الرأي والرأي الآخر، الذي هو عنوان الحضارة التي أرادتها شرعة السماء، ومظهر من مظاهر التطور الذي دعا إليه الأنبياء والأوصياء، والحسين (عليه السلام) الذي نتحدث عنه هو أحد هؤلاء الدعاة. ولطالما ضم ديوان شاعر مرموق مسلم أو ربما غير مسلم، قصيدة أو قطعة أو بيت في الإمام الحسين (عليه السلام)، ومن ذلك: هلال بن بحر ألبو سعيدي المتوفى عام 1385 هـ (الأباضية)، مصطفى بن جعفر جمال الدين المتوفى عام 1417 هـ (الإثنا عشرية)، أوأديس بن أرشاوير استانبوليان المولود عام 1375 هـ (الأرمن)، طاهر سيف الدين بن محمد برهان الدين المتوفى عام 1385 هـ (الإسماعيلية)، خالد فوزي عبده المولود عام 1346 هـ (الحنبلية)، لينا بنت عبد الرحمن أبو بكر المولودة عام 1393 هـ (الحنفية)، فرحات بن حسين بيراني المولود عام 1354 هـ (الدروز)، حليم بن إبراهيم بن جرجس دموس المتوفى عام 1377 هـ (الروم الأرثوذكس)، محمد بن يحيى بلابل (الزيدية)، عبد الله بن عثمان العلايلي المتوفى عام 1417 هـ (الشافعية)، عبد الرزاق بن عبد الواحد فياض المراني المولود عام 1349 هـ (الصابئة)، علي بن محمد بن حسن الدريكيشي المتوفى عام 1406 هـ (العلويون)، بولس سلامة المتوفى عام 1399 هـ (المارونية)، محمد بن سليمان أبو القاسم المولود عام 1356 هـ (المالكية)، مير بن شاؤل البصري المتوفى عام 1426 هـ (اليهودية). وحسب تعبير أستاذ الآداب العربية في جامعة حيفا البروفيسور جورج جرجورة بن إيليا قنازع، المولود في مدينة الناصرة عام 1941 من أسرة مسيحية، في تقويمه للجزء الثاني من المدخل الى الشعر الحسيني، إن: هذا الجزء من دائرة المعارف الحسينية الذي نقدم له هو الجزء الثاني من المدخل إلى الشعر الحسيني كما في عنوانه، وهو على ضخامته ليس إلا مدخلاً، لأن الشعر الحسيني كثير شارك فيه عدد كبير جداً من الشعراء من مختلف الأقطار الإسلامية، أضاف له الشيخ محمد صادق الكرباسي ما قاله شعراء آخرون من أديان ومعتقدات ومن أقطار أخرى، ليصبح الشعر الحسيني بذلك يمثل أصدق تمثيل المشاعر الإنسانية على مختلف مشاربها وميولها، هذه المشاعر التي تلتقي عند هذا الحدث الجلل لتعبر عن موقفها المؤازر لصاحب الشهادة وللقيم التي ضحى بنفسه من أجلها.
جهود ولودة
وإلى جانب العشرات من الفهارس المهمة في موضوعات شتى، تضمن الكتاب قراءة أدبية ونقدية للبروفيسور جورج قنازع رئيس قسم اللغة العربية في جامعة حيفا، فعنده: كان لمقتل الحسين أثر كبير جداً في الحياة السياسية للمجتمع العربي في تلك الفترة، ولكنه لم يقتصر على ذلك، فالقرون الكثيرة التي توالت منذ حادثة كربلاء ما زالت تحمل أثر ذلك المقتل سياسياً واجتماعياً وأدبياً وحضارياً، ومازال الحدث حياً يتفاعل مع الجماهير، ومازالت الجماهير تجد فيه ما يشدها إليه وما تستوحيه منه، مضيفاً: ولقد تعدى مقتل الحسين التأثير في المجال الديني والسياسي ليحتل بقوة مكانة بارزة في مجال الأدب الذي نراه في اتجاهات مختلفة. والبروفيسور قنازع على قناعة تامة أنه: يجب ألا ننسى أن الحسين بن علي بنفسه كان مبدعاً في مجال الأدب، فقد كان خطيباً مصقعاً كما كان شاعراً. وبهذه القناعة يؤكد: وللحقيقة فان ضخامة المادة المتعلقة بهذا الموضوع المركزي لَتشير بالضرورة إلى ضخامة الجهد الذي يتطلبه عمل بهذا الحجم، فجمع كل ما يتعلق بالحسين بن علي من أمهات كتب الفقه والسيرة والتاريخ، ثم جمع الشعر الحسيني من بدايته حتى أيامنا، بما في ذلك الشعر الشعبي على اختلاف أوزانه، ثم الشعر الفارسي وغيره مما وعدنا برؤيته مجمعاً في دائرة واحدة من المعارف، كل هذا يدل على الجهد المبارك الذي يقوم به واضع هذه الدائرة من المعارف التي سيتناولها القراء والدارسون، لأنها تجمع بين دفتيها كل ما يريد القارئ أو الباحث معرفته، ولا بد أن يُنتج هذا الجهد المبارك دراسات وأبحاثاً قيمة تثري الإنسانية في بحثها عن حياة أفضل قائمة على القيم والمثل العليا.
النتیجة
وبهذا الجزء يختم المؤلف المقدمة، التي شكلت مع الجزء الأول حصيلة علمية راقية عن الشعر، فضلا على أن المقدمة بجزئيها شكلت بحق موسوعة ميسرة عن الأدب والشعر، وهي معجم كل شاعر وأديب، وتستحق أن تكون مادة دراسية أو مرجعاً دراسياً في الكليات والمعاهد المختصة، فما جاء به المحقق الكرباسي من نظريات ليست بالقليل، فضلا عن تصحيحه للكثير من المعلومات والمفاهيم المغلوطة، ضافياً عليه من الشرع موقفه.