ما أكرمأبا محمّد الحسن المجتبى (عليه السلام)، وأسخى تضحيته حين أقدم على “ الصلح “ الذي اعتبره بعض حواريِّه ذُلاًّ وزعَمَهُ أعداؤه جبناً واستسلاماً، ولم يكن إلاّ أروع صور النصر على الذات، ومقاومة نزوة الهوى والمحافظة على دماء المسلمين، وتحقيقاً لكلمة الرسول الصادق المصدّق (صلى الله عليه وآله) حين قال: “ إنّ ابني هذا سيّد، ولعلّ اللـه عزَّ وجلَّ يصلح به بين فئتين من المسلمين “ [1]. فلولا أنّ الحسن كان قدوة الصلاح، وأسوة التضحيات، وجماع المكرمات، وكان بالتالي الإمام المؤيَّد بالغيب. لتمزقت نفسه الشريفة بصعود معاوية اريكة الحكم، وهو الذي قال فيه الرسول (صلى الله عليه وآله): “ إذا رأيتم معاوية هذا على منبري فاقتلوه، ولن تفعلوا “. ولولا اتصال قلبه الكبير بروح الرب إذاً لمات كمداً. حيث كان يرى تقهقر المسلمين وصعود نجم الجاهلية الجديدة. ولولا حلمه العظيم النابع من قوة إيمانه باللـه وتسليمه لقضائه، إذاً ما صبر على معاوية. وهو يرقى منبر جده، ويمزق منشور الرسالة، ويسب أعظم الناس بعد الرسول. بلى، ولكنّ الحسن (عليه السلام) آثر الآخرة على الدنيا. وقبل الصلح للاسباب التالية: 1- إن نظرة أهل البيت (عليه السلام) إلى الحكم كانت تنبع من انه وسيلةً لتحقيق قيم الرسالة. فإذا مال الناس عن الدين الحق، وغلبت المجتمع الطبقات الفاسدة، وأرادت تحويل الدين إلى مطية لمصالحهم اللامشروعة. فليذهب الحكم إلى الجحيم.. لتبقى شعلة الرسالة متقدة، ولتصب كلّ الجهود في سبيل إصلاح المجتمع أولاً، وبشتى الوسائل المتاحة. لقد قال الإمام علي (عليه السلام) عن أسلوب الحكم: “ واللـه ما معاوية بأدهى منّي، ولكنه يغدر ويفجر. ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس. ولكن كلّ غُدرة فُجرة وكلّ فُجرة كُفرة، ولكلّ غادرٍ لواءٌ يُعرف به يوم القيامة. واللـه ما أُستغفل بالمكيدة ولا أُستّغمز بالشديدة “ [2]. أما عن نظرته إلى الحكم ذاته فقد رُوي عن عبد اللـه بن العباس أنه قال: “ دخلت على أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يخصف نعله. فقال لي: ما قيمة هذا النعل؟. فقلت: لا قيمة لها. فقال (عليه السلام): واللـه لَهِيَ أحبُّ إليّ من إمرتكم، إلاّ أن أُقيم حقّاً أو أدفع باطلاً “ [3]. 2- ولقد عاش الإمام الحسن (عليه السلام) مرحلة هبوط الروح الإيمانية عند الناس، وبالذات في القبائل العربية التي خرجت من جو الحجاز. وانتشرت في أراضي الخير والبركات، فنسيت رسالتها أو كادت. فهذه كوفة الجند التي تأسست في عهد الخليفة الثاني لتكون حامية الجيش، ومنطلقاً لفتوحات المسلمين الشرقية، أصبحت اليوم مركزاً لصراع القبائل، وتسيس العسكر. وأخذ يتبع من يعطي أكثر. فبالرغم من وجود قبائل عربية حافظت على ولائها للإسلام والحق، ولخط أهل البيت الرسالي. إلاّ أن معظم القبائل التي استوطنت أرض السواد حيث الخصب والرفاه بدأت تبحث عن العطاء، حتى أنهم تفرقوا عن القيادة الشرعية، وبدأوا يراسلون المتمردين في الشام حينما عرفوا أنّ معاوية يبذل أموال المسلمين بلا حساب، بل إنك تجد ابن عمِّ الإمام الحسن وقائد قوات الطليعة في جيشه. عبيد اللـه بن العباس. يلتحق بمعاوية طمعاً في دراهمه البالغة مليون درهمٍ. ونجد الكوفة تخون مرة أخرى إمام الحق الحسين (عليه السلام)، حينما يبعث إليهم ابن عمه مسلم بن عقيل. فيأتيهم ابن زياد ويمنِّيهم بأن يزيد في عطائهم عشرة. فإذا بهم يميلون إليه ويُقاتلون سبط رسول اللـه وأهل بيته بابشع صورة، ودون أن يسألوا ابن زياد عمّا يعنيه بكلمة عشرة. فإذا به يزيد في عطائهم عشرة تُميرات فقط.. ولعلَّهم كانوا يمنون أنفسهم بعشرة دنانير!! لقد تعبت الكوفة من الحروب، وبدأت تفكر في العيش الرغيد. وغاب عنهم أهل البصائر الذين كانوا يحومون حول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ويذكِّرون الناس باليوم الآخر. ويبيّنون للناس فضائل إمامهم الحق. لقد غاب عنهم اليوم عمار بن ياسر الذي كان ينادي بين الصفيْن في معركة صِفِّين: الرواحَ إلى الجنة!. ومالك الأشتر الذي كان لعليٍ (عليه السلام) مثلما كان عليٌّ لرسول اللـه (صلى الله عليه وآله) بطلاً مقداماً. وقائداً ميدانيّاً محنكاً. وغاب ابن التيهان الذي يعتبره الإمام علي (عليه السلام) أخاً له، ويتأوه لغيابه، بلى لقد غاب أهل البصائر من أصحاب الرسول وأنصار علي (عليه السلام) الذين كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يعتمد عليهم في إدارته للحروب.. وغاب القائد المقدام، البطل الهمام، الإمام علي (عليه السلام) أيضاً، بعد أن أنهى سيف الغدر حياته الحافلة بالأسى، فإنه كان قد صعد المنبر قبيل استشهاده، وقد نشر المصحف فوق رأسه وهو يدعو ربه ويقول: “ مـــا يحبــــس اشقاكم أن يجيء فيقتلني، اللـهمّ إني قد سئمتهم وسئمونـــي، فأَرِحْهــــم منّي وأَرِحْنــــي منهــــم “ [4]. وبالرغم من أن الإمام عليّاً كان قد جهّز جيشاً لمقارعة معاوية قبيل استشهاده. وهو ذلك الجيش الذي قاده من بعده الإمام الحسن (عليه السلام) إلاّ أنّ خور عزائم الجيش. واختلاف مذاهبه وخيانة قواده، كان كفيلاً بهزيمته حتى ولو كان الإمام علي (عليه السلام) هو الذي يقوده بنفسه.. إلاّ أن التقدير كان في استشهادالبطل، وأن يتم الصلح على يد نجله العظيم الذي أخبر الرسول (صلى الله عليه وآله) أن اللـه سوف يُصلح به بين طائفتين من أمته. ويشهد على ذلك ما جاء في حديث مأثور عن الحارث الهمداني قال: لمّا ماتعليّ (عليه السلام) جاء الناس الى الحسن وقالوا: أنت خليفة أبيك ووصيّه، ونحن السامعون المطيعون لك، فمرنا بأمرك فقال: “ كذبتم، واللـه ما وفيتم لمن كان خيراً منِّي، فكيف تفون لي؟. وكيف أطمئن إليكم ولا اثق بكم؟. إن كنتم صادقين فموعد ما بيني وبينكم معسكر المدائن فوافوا هناك “ [5]. وماذا كان يمكن للإمام الحسن أن يصنعه في مثل هذه الظروف المعاكسة؟. هل يسير في جيشه بسيــــرة معاويــــة، ويوزع عليهم أموال المسلمين، فمــــن رغب عنــــه عالجه بالعسل المسمــــــوم؟. أم يسيــــــــر بسيرة أبيه حتى ولو كلّفه ذلك سلطته. لقد ترك السلطة حين علم بأنها لم تعد الوسيلة النظيفة لأداء الرسالة، وان هناك وسيلة أفضل وهي الإنسحاب إلى صفوف المعارضة وبث الروح الرسالية في الأمة من جديد، عبر تربية القيادات، ونشر الأفكار، وقيادة المؤمنين الصادقين المعارضين للسلطة وتوسيع نطاق المعارضة. وهكذا فعل (عليه السلام). 3- وشروط الصلح التي أملاها الإمام على معاوية. وجعلها بذلك مقياساً لسلامة الحكم، تشهد على أنه (عليه السلام) كان يخطط لمقاومة الوضع الفاسد، ولكن عبر وسائل أخرى. لقد جاء في بعض بنود الصلح ما يلي: 1- أن يعمل (معاوية) بكتاب اللـه وسنّة رسوله وسيرة الخلفاء الصالحين. 2- وليس لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهد إلى أحد من بعده عهداً بل يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين. 3- وعلى أن الناس آمنون حيث كانوا من أرض اللـه في شامهم، وعراقهم، وحجازهم، ويمنهم. 4- وعلى أنّ أصحاب عليّ وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم.. 5- وعلى أن لايبغي للحسن بن عليّ ولا لأخيه الحسين ولا لأحد من أهل بيت رسول اللـه غائلة سراً ولا جهراً، ولا يخيف أحداً منهم في أفق من الآفاق [6]. إن نظرة خاطفة لهذه الشروط تهدينا إلى أنها اشتملت على أهم قواعد النظام الإسلامي من دستورية الحكم (على هدى الكتاب والسنّة) وشوريّة الحكم. وإنه مسؤول عن توفير الأمن للجميع وبالذات لقيادة المعارضة، وهم أهل بيت الرسول. وقـد قبل معاوية بهذه الشروط، مما جعلها أساساً للنظام عند الناس. وقد وجد الإمام بذلك أفضل طريقة لتبصير الناس بحقيقته، وتأليب أصحاب الضمائر والدين عليه، حين كان يخالف بعض تلك الشروط. قد تحمّل الإمام الحسن عناءً كبيراً في إقناع المسلمين بالصلح مع معاوية، حيث إنّ النفوس التي كانت تلتهب حماساً، والتي كانت معبأة نفسيّاً ضد معاوية، كانت تأبى البيعة معه. على أنّ القشريين من طائفة الخوارج كانت ترى كفر من أسلم الأمر إلى معاوية، وقد قالوا للإمام الحسن (عليه السلام): (كفر واللـه الرجل) [7]. وقد خطب الإمام بعد صلحه مع معاوية في الناس وقال: “ أيها الناس إنكم لو طلبتم ما بين جابلقا وجابرسا رجلاً جدّه رسول اللـه (صلى الله عليه وآله) ما وجدتم غيري وغير أخي. وإن معاوية نازعني حقّاً هو لي فتركته لصلاح الأمة، وحقن دمائها. وقد بايعتموني على أن تسالمــــوا من سالمت، وقد رأيت أن أُسالمه، وأن يكون ما صنعت حجةً على مــــن كان يتمنّى هذا الأمــــر، وإنْ أَدري لعلّه فتنة لكم ومتاع إلى حين “ [8]. ومع ذلك فقد عارضه بعض أفضل أصحابه في ذلك. فقال حجر بن عدي رضوان اللـه عليه له: “ أما واللـه لَوَددتُ أنك مت في ذلك اليوم، ومتنا معك ولم نَرَ هذا اليوم، فإنا رجعنا راغمين بما كرهنا، ورجعوا مسرورين بما أحبّوا “. ويبدو أن الإمام كره أن يجيبه في الملأ إلاّ أنه حينما خلا به قال: “ يا حجر قد سمعتُ كلامك في مجلس معاوية. وليس كلُّ إنسان يُحب ما تُحب، ولا رأيه كرأيك، وإنّي لم أفعل ما فعلت إلاّ إبقاءً عليكم، واللـه تعالى كلَّ يوم هو في شأن “ [9]. وكان سفيان من شيعة أمير المؤمنين والحسن (عليه السلام)، ولكنه دخل على الإمام وعنده رهط من الناس فقال له: السلام عليك يا مُذِلَّ المؤمنين . فقال له: وعليك السلام يا سفيان. يقول سفيان: فنزلت فعقلت راحلتي ثم أتيته فجلست إليه فقال: كيف قلت يا سفيان؟ قال: قلت: السلام عليك يا مُذِلَّ المؤمنين. واللـه بأبي أنت وأمّي أذللت رقابنا حين أعطيت هذا الطاغية البيعة، وسلّمت الأمر إلى اللعين ابن آكلة الأكباد، ومعك مئة ألف كلّهم يموت دونك، وقد جمع اللـه عليك أمر النّاس. فقال (عليه السلام): “ يا سفيان إنّا أهل بيت إذا علمنا الحقَّ تمسّكنا به، وإنّي سمعت عليّاً (عليه السلام) يقول: سمعت رسول اللـه (صلى الله عليه وآله) يقول: لا تذهب الأيّام واللّيالي حتّى يجتمع أمر هذه الأمة على رجل واسع السرم، ضخم البلعوم، يأكل ولا يشبع، لا ينظر اللـه إليه، ولا يموت حتى لايكون له في السماء عاذر، ولا في الأرض ناصر، وإنّه لمعاوية. وإنّي عرفتُ أنّ اللـه بالغ أمره “. ثم أذّن المؤذِّن فقمنا إلى حالب يحلب ناقته فتناول الإناء فشرب قائماً ثمّ سقاني وخرجنا نمشي إلى المسجد فقال لي: “ ما جاء بك يا سفيان؟ قلت: حُبُّكم والذي بعث محمدّاً بالهدى ودين الحق. قال: فأبشر يا سفيان فإنّي سمعت عليّاً (عليه السلام) يقول: سمعت رسول اللـه (صلى الله عليه وآله) يقول: يرد عليَّ الحوض أهل بيتي ومَن أحبّهم من أُمّتي كهاتين - يعني السبّابتين - أو كهاتين - يعني السبابة والوسطى - إحداهما تفضل على الأخرى، أبشر يا سفيان، فإنّ الدنيا تسع البرّ والفاجر، حتّى يبعث اللـه إمام الحقّ من آل محمّد (صلى الله عليه وآله) “. وفي بعض الأحيان كان الإمام الحسن (عليه السلام) يصد على أصحابه ببيعة معاوية. فحين دخل قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري صاحب شرطة الخميس الذي أسسه الإمام علي (عليه السلام)، دخل على معاوية فقال لــه معاوية: بايع. فنظر قيـــس إلى الحسن (عليه السلام)، فقال: يا أبا محمّد بايعت؟. فقال له معاوية أما تنتهــــي؟. أما واللـه إنّي... [10]. فقال له قيس: ما شئت. أَمَا واللـه لئن شئت لتناقضت به [11]. قال: فقام إليه الحسن وقال له: بايع يا قيس، فبايع [12]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ([1]) بحار الأنوار: (ج 43، ص 298). ([2]) نهج البلاغة: (ص 318). كلمة (200) - اعداد صبحي الصالح -. ([3]) المصدر: (ص 76). ([4]) بحار الانوار: (ج 42، ص 196). ([5]) بحار الأنوار: (ج 44، ص 43). ([6]) المصدر: (ص 65). ([7]) المصدر: (ص 47). ([8]) المصدر: (ص 56). ([9]) المصدر: (ص 57). ([10]) يبدو أنّ معاوية أراد أن يُهدِّد قيساً. ولكنه سكت. ([11]) يبدو أنّ قيساً ردّ تهديدات معاوية، وقال: إن شئت فإني قادر على نقض العهد. ([12]) المصدر: (ص 62).