للتعرف على مدى حرص الإمام الحسن (عليه السلام) على مصلحة الإسلام العُليا لا بُدَّ لنا أن نستعرض مواقفه من خلال العهود الثلاث التي عاشها (عليه السلام): العهد الأول: في عهد عثمان: وتتوزّع مواقفه (عليه السلام) في هذه المرحلة على مجالين، وهما: المجال الأول: مشاركته (عليه السلام) في الكثير من حروب الدفاع عن بَيضة الإسلام، وفي كثير من الفتوحات الإسلامية أيام خلافة عثمان، منطلقاً من مقولة أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام) في رعاية مصلحة الإسلام العليا، التي كرَّرها في أكثر من موضع: (وَالله لأسَلِّمَنَّ ما سَلمَتْ أمُور المسلمين، ولم يَكن جَورٌ إلاَّ عليَّ خاصة). وقد انضمَّ الإمام الحسن (عليه السلام) إلى جنود المسلمين الذين اتَّجهوا إلى أفريقيا بقيادة عبد الله بن نافع، وأخيه عقبة، في جيش بلغ عشرة آلاف مجاهد – كما جاء في كتاب (العِبَر) لابن خلدون –. وتطلَّع المسلمون إلى النصر والفتح متفائلين بوجود حفيد الرسول (صلى الله عليه وآله) وحبيبه يجاهد معهم، وكانت الغزوة ناجحة وموفقة كما يصفها المؤرّخون. وكما جاء في تاريخ الأمم والملوك في حوادث سنة ثلاثين للهجرة، أن سعيد بن العاص غزا خراسان، ومعه حُذيفة بن اليمان وناس من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) والحسن والحسين (عليهما السلام) إلى جُرجان. فصالحوه على حدِّ تعبير الطبري على ساحل البحر، فقاتلهم أهلها قتالاً شديداً، وصلى المسلمون صلاة الخوف، وأخيراً انتصر المسلمون في تلك المناطق كما نصَّ على ذلك كثير من المؤرّخين. المجال الثاني: كان موقفه (عليه السلام) من خلافة عثمان وما آلت إليه هو موقف أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام)، فعبَّر فيه عن كامل الطاعة والالتزام بأوامره وتوجيهاته في تلك الفترة العصيبة والفتنة العمياء، وخصوصاً بعد أن ملَّ المسلمون سياسة عثمان وأعوانه وعمَّاله. وتنقل لنا كتب التاريخ وقائع تلك الفترة، ومنها أنه بعد فشل كل المحاولات التي بذلها المسلمون لإصلاح سياسة عثمان وأعوانه وعماله، وخوفهم على دينهم ودنياهم، زحفوا إليه من جميع الأقطار، ودخلوا في مفاوضات معه يطالبونه بإصلاح ما أفسده هو وعُمَّاله، أو بالتخلي عن السلطة. وكان أمير المؤمنين وولده الحسن (عليهما السلام) وَسيطَين بين الخليفة ووفود الأمصار في محاولة للإصلاح، ووضع حدٍّ للفساد الذي شمل جميع مرافق الدولة. ومما لا شك فيه أن أمير المؤمنين وولديه الحسن والحسين (عليهم السلام) كانوا كغيرهم من خِيار الصحابة ناقمين على تصرّفات عثمان وأنصاره وعُمَّاله، ومع ذلك لم يبلغ بأمير المؤمنين (عليه السلام) الحال إلى حدود الرضا بقتله والتحريض عليه. بل وقف (عليه السلام) منه موقفاً سليماً، وأراد من عثمان أن ينتهج سياسة تتَّفق مع منهج الإسلام، وأن يجعل حدّاً لتصرَفات ذَويه وعُمَّاله الذين أسرفوا في تبذير الأموال واستعمال المنكرات. العهد الثاني: في عهد أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام): ومن مواقفه (عليه السلام) المشهودة في هذه المرحلة ما يأتي: الموقف الأول: دوره (عليه السلام) في حرب الناكثين المعروفة بـ (حرب الجمل)، وهي الحرب التي استَعَرت في إثر تمرّد طلحة والزبير في البصرة، ورفعهما السلاح بوجه أمير المؤمنين (عليه السلام)، وكان ذلك بقيادة عائشة. وقد تمثَّل دور الإمام الحسن (عليه السلام) فيها بأمرين أساسيين: الأمر الأول: لما توجَّه أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى (ذِي قَار) ونزلَها، أرسَلَ الحسنَ (عليه السلام) إلى الكوفة مع عَمَّار بن ياسر، وزيد بن صوحان، وقيس بن سعد، لِيستَنفروا أهلها لمساعدته على طلحة والزبير. وكان قد أرسل (عليه السلام) قبلهم وفداً، فعارضَهم أبو موسى، ولم يستجب لطلب أمير المؤمنين (عليه السلام). وأخيراً استجاب الناس لنداء الإمام الحسن (عليه السلام)، وخرج معه إلى البصرة اثنا عشر ألفاً، وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) قد أخبر بعددهم وهو في (ذي قار)، كما جاء في رواية الشعبي عن أبي الطفيل. وأضاف إلى ذلك أبو الطفيل يقول: والله لقد قعدتُ على الطريق، وأحصيتُهم واحداً واحداً، فما زادوا رجلاً ولا نقصوا رجلاً. الأمر الثاني: شارك الإمام الحسن (عليه السلام) في حرب الجمل إلى جنب أمير المؤمنين (عليه السلام)، وحمل رايته وانتصر بها على الناكثين، وهذا ما أجمع عليه المؤرخون. الموقف الثاني: دوره في حرب القاسطين المعروفة بـ (حَرب صِفين)، وهي حرب البغاة في الشام التي قادها معاوية بن أبي سفيان خروجاً على خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام). وهكذا أيضاً كان دور الإمام الحسن (عليه السلام) فيها كَدَوره في حَرب الجمل، بل زاد عليه، حيث قام (عليه السلام) بتَعبِئة المسلمين للجهاد، وبذل جهده لإحباط مؤامرة التحكيم، والاحتجاج على المنادين به. العهد الثالث: في أيام خلافته (عليه السلام): وبعد شهادة أبيه (عليه السلام) تسابق الناس إلى بيعته في الكوفة والبصرة، كما بايعه أهل الحجاز واليمن وفارس، وسائر المناطق التي كانت تدين بالولاء والبيعة لأبيه (عليه السلام). ولما بلغ نبأ البيعة معاوية اجتمعَ بِكبار أعوانه، وشرعوا بَحَبكِ المؤامرات ورسم الخطط لنقض بيعة الإمام الحسن (عليه السلام) وتقويض خلافته. وعندما نستقرئ سيرة الإمام الحسن (عليه السلام) ومواقفه إزاء هذه المؤامرات والفتن تَتَجَسَّد أمامنا قِمَّة الفناء في الله سبحانه، واتِّخاذ مصلحة الإسلام العليا مقياساً حاسماً لمواقفه ومواجهاته (عليه السلام)، مضحِّياً بكل شيء دون ذلك. ويمكننا الإشارة إلى ثلاث حالات قد مثّلت كُبرَيَات مواقفه (عليه السلام) الرسالية المشهودة في هذا السبيل: الحالة الأولى: أن الإمام الحسن (عليه السلام) رأى ابتداءً أن مصلحة الإسلام العليا تقوم بالتعبئة لحرب الباغية معاوية بن أبي سفيان. فقد اتَّخذ الإمام (عليه السلام) قراره هذا بعد مُراسلات متبادلة بينه وبين معاوية، أتمَّ فيها الحُجَّة عليه، وردَّ عليه محاولاته لإغرائه (عليه السلام) بالأموال والخلافة من بعده. وكان آخر ما كتبه الإمام (عليه السلام) رادّاً عليه: (أمَّا بعد: فقد وصلني كتابُك، تذكر فيه ما ذكرتَ، وتركتَ جوابك خشية البغي عليك، وبالله أعوذ من ذلك، فاتَّبِع الحقَّ تعلم أنِّي من أهله، وعليَّ إثم أن أقول فاكذب، والسلام). ولما وصله كتاب الإمام الحسن (عليه السلام) أدرك أن أساليبه ومغرياته لم تغيِّر من موقفه شيئاً، فكتب إلى جميع عُمَّاله في بلاد الشام: (أمَّا بعد: فإني أحمد إليكم الله، الذي لا إله غيره، والحمد لله الذي كفاكم مؤنة عدوِّكم، وقتلة خليفتكم. إن الله بلطفه وحُسن صنيعه أتاح لِعليِّ بن أبي طالب رجلاً من عباده فاغتاله وقتله، وترك أصحابه متفرِّقين مختلفين، وقد جاءتنا كتب أشرافهم وقادتهم يلتمسون الأمان لأنفسهم وعشائرهم، فأقبِلوا إليَّ حين يأتيكم كتابي هذا بجهدكم، وجندكم، وحسن عدتكم، فقد أصبتم – بحمد الله – الثار، وبلغتُم الأمل، وأهلك اللهُ أهل البغي والعدوان، والسلام عليكم ورحمة الله). فاجتمعت إليه الوفود من كل الجهات وسار بهم باتِّجاه العراق. ولما علم الإمام الحسن (عليه السلام) بذلك صعد المنبر، فأثنى على الله وصلى على رسوله (صلى الله عليه وآله)، ثم قال (عليه السلام): (.. بلغَني أن معاوية كان قد بَلَغه أنَّا أزمعنا على المسير إليه، فتحرَّك نحونا بجنده، فاخرجوا رحمكم الله إلى معسكركم بالنخيلة، حتى ننظر وتنظرون، ونرى وتَرَون). الحالة الثانية: رأى الإمام (عليه السلام) أن مَدار مصلحة الإسلام العليا بعد خُذلان جيشه له وتفرقه عنه أن يقوم بعقد مُعاهدة الصلح مع معاوية بن أبي سفيان. وفي هذا السياق ينقل لنا المؤرخون أن معاوية لمَّا أرسل خَيله لقتال الجيش الذي يقوده عبيد الله ردَّها أهل العراق على أعقابها. وبمجيء الليل أرسل معاوية رسالة إلى عبيد الله جاء فيها: (إن الحسن قد أرسلني في الصلح وسلَّم الأمر لي، فإن دخلت في طاعتي الآن تكن متبوعاً، خيرٌ لك من أن تكون تابعاً بعد غد، ولك إن أجبتني الآن أن أعطيك ألف ألف درهم، أعجِّل لك في هذا الوقت نصفها، وعندما أدخل الكوفة أدفع لك النصف الثاني). ويدَّعي أكثر المؤرخين أن عبيد الله انسلَّ من قاعدته، ودخل عسكر معاوية ومعه بضعة آلاف ممن كانوا معه، فوفَّى له بما وعده. وكان موقف عبيد الله من جملة العوامل التي تسبَّبت في تفكّك جيش الإمام الحسن (عليه السلام) وتخاذله. ونشط أنصار معاوية في نشر الترهيب والترغيب في صفوف الجيش، ولم يتركوا وسيلة لصالح معاوية إلاَّ واستعملوها. واستَمَالوا إليهم حتى رؤساء ربيعة الذين كانوا حِصناً لأمير المؤمنين (عليه السلام). وشاعت الخيانة بين جميع كتائب الجيش وقبائل الكوفة، وأدرك الإمام (عليه السلام) كل ذلك، وصارحهم بالواقع الذي لم يَعد يَجُوز السكوت عنه، فقال (عليه السلام): (يا أهل الكوفة، أنتم الذين أكرَهتُم أبي على القتال والحكومة، ثم اختَلَفتُم عليه، وقد أتَاني أنَّ أهل الشرف منكم قد أتوا معاوية وبايعوه، فَحَسبي منكم، لا تَغرّوني في ديني ونفسي). وكان معاوية على ما يبدو حريصاً على ألا يتورط مع الإمام (عليه السلام) في الحرب، وإن كان مطمئنّاً لنتائجها، فعرض عليه فكرة الصلح في أولى رسائله، وترك له أن يشترط ويطلب ما يريد. فراح يُردِّد حديث الصلح في مجالسه، وبين أنصاره في جيش العراق، ويأمرهم بإشاعته. وكاتَبَ القَادة والرؤساء به ليصرف أنظارهم عن الحرب، ويَبُثّ بينهم روح التخاذل والاستسلام للأمر الواقع. وكانت فكرة الصلح مُغلَّفَة بِلَونٍ ينخذع له الكثيرون من الناس، ويفضِّلونه على الحربوالقتال. فلقد عرضها في رسالته الأولى على الإمام (عليه السلام) وأشاعها بين أهل العراق، على ألاَّ يقضي أمراً من الأمور بدون رأيه، ولا يعصيه في أمر أُريدَ به طاعة الله ورسوله (صلى الله عليه وآله)، فترك له مع ذلك أن يقترح ما يريد. كلّ ذلك لِعِلمه بأنها ستلقى بهذه الصياغة قبولاً من الكثيرين، وسيتبع ذلك انقسام في صفوف الجيش يضطرّه إلى الصلح، لأنَّه أهون الشرَّين. ولم يكن الإمام (عليه السلام) يفكِّر بصلح معاوية، ولا بمُهَادَنَته، غير أنه بعد أن تكدَّست لديه الأخبار عن تفكّك جيشه، وانحياز أكثر القادة لجانب معاوية، أراد أن يختبر نواياهم، ويمتحن عَزيمتهم. فوقف (عليه السلام) بمن كان معه في ساباط، ولوَّح لهم من بعيد بالصلح، وجمع الكلمة فقال (عليه السلام): (فَوَاللهِ إِنِّي لأرجو أن أكونَ أنصحُ خلقَ الله لخلقه، وما أصبحت محتملاً على أحدٍ ضغينة، ولا مُريداً له سوءاً ولا غائلة. ألا وإِنَّ ما تكرهون في الجماعة خيرٌ لكم مِمَّا تُحبّون في الفرقة، ألا وإني ناظر لكم خيراً من نظركم لأنفسكم، فلا تخالفوا أمري، ولا تردّوا عليَّ رأيي، غفر الله لي ولكم، وأرشدني وإيَّاكم لما فيه مَحبَّتِه ورضاه). وهنا تنقَّح لدى الإمام (عليه السلام) موضوع مصلحة الإسلام العليا بدفع أعظم الضررين: أولهما: الاستمرار بحرب خاسرة لا محالة فيها فناؤه وفناء أهل بيته (عليهم السلام) وبقية الصفوة الصالحة (رضوان الله عليهم) من أصحاب رسول الله وأصحاب أمير المؤمنين وأصحابه هو (عليهم السلام). ثانيهما: القبول بالصلح، وحقن دماء أهل بيت النبوة والعصمة (عليهم السلام) وبقية الصفوة الصالحة من شيعتهم، ليحملوا لواء الدعوة لآل محمد (صلى الله عليه وآله). ويصدعوا بالحق أمام محاولات تضييعه، وتحريف وتزوير دين الله وسُنَّة رسوله (صلى الله عليه وآله)، ليتَّصل حَبلُهم بحبل الأجيال اللاحقة، ولتصل إليها معالم الدين الحق، ولتدرك حق أهل البيت (عليهم السلام) وباطل أعدائهم. ولهذا اضطرَّ الإمام الحسن (عليه السلام)للصلح. الحالة الثالثة: وجد الإمام (عليه السلام) أن عليه – في سبيل بيان الأسباب والعلل التي ألجأته إلى عقد معاهدة الصلح مع معاوية بن أبي سفيان – أن يكشف الحقائق، ويُظهرها، لتتمَّ الحُجَّة البالغة في إدراك حقيقة المصلحة الإسلامية العليا الكامنة في هذا الصلح، وقد تواصلت بياناته وخطاباته في هذا السبيل إلى آخر لحظة من لحظات حياته الشريفة. وممَّا يروى في ذلك أنه بعد أن تمَّ التوقيع على الصلح، قدم معاوية إلى الكوفة للاجتماع بالإمام الحسن (عليه السلام)، حيث ارتقى معاوية المنبر ليعلن متحدِّياً كل المواثيق والعهود والأعراف أنَّه يسحق بقدميه كل الشروط التي صالح الحسن (عليه السلام) عليها. وخاطب الناس المُحتَشَدة في مسجد الكوفة قائلاً: (والله، إنِّي ما قاتلتكم لتصلّوا، ولا لِتصوموا، ولا لتحجّوا، ولا لتزكّوا، إنكم لتفعلون ذلك، وإنما قاتلتكم لأتأمَّر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك، وأنتم له كارهون). ثم قال: (ألا وإِنَّ كلَّ دم أصيب في هذه الفتنة فهو مَطلُول، وكل شرط شرطتُه فَتَحْتَ قَدميَّ هاتين). وفي هذه الحال تَمَلْمَل أصحاب الإمام الحسن (عليه السلام) وأتباعه، فتجرَّأوا عليه، ووصفوه (عليه السلام) بـ (مُذِلِّ المؤمنين). فصبر (عليه السلام) صبراً جميلاً، وطفقَ يبيِّن لهم الحقائق التي خُفِيت عنهم في أجواء الانفعال، والعاطفة، والغضب، الذي اعتراهم من تحدِّي معاوية لهم، ونقضه لوثيقة الصلح، وتوهينه للإمام الحسن (عليه السلام) وأصحابه. وممَّا روي عنه (عليه السلام) أنه قال لبشير الهمداني عندما لامَهُ على الصلح: (لَسْتُ مُذلاًّ للمؤمنين، ولكنِّي مُعزّهم، ما أردتُ لِمُصَالحتي إلاَّ أن أدفع عنكم القتل، عندما رأيت تَبَاطُؤَ أصحابي، ونُكُولهم عن القتال). ولقد أشار الإمام الباقر (عليه السلام) إلى هذه المَصلحة الإسلامية العُليا في صلحالإمام الحسن (عليه السلام) مع معاوية بن أبي سفيان بقوله: (والله، لَلَّذي صنعه الحسن بن علي (عليهما السلام) كان خيراً لِهَذه الأمَّة مِمَّا طَلعت عليه الشَّمس).