في سنة 200 هـ وبعد عامين من سيطرة المأمون على زمام السلطة، كتب إلى الإمام الرضا (عليه السلام) يدعوه للقدوم إلى خراسان، فاعتلَّ الإمام (عليه السلام) بعللٍ كثيرة، واستمرَّ المأمونُ بمكاتبته ومراسلته، حتى علم (عليه السلام) أنَّه لا يكفُّ عنه، فاستجاب له، وأمر المأمونُ الشخصَ الموكَّل بالإمام الرضا (عليه السلام) أن لا يسيرَ به عن طريق الكوفة وقم، وعند وصوله إلى (مرو) عرض عليه أن يتقلَّد الخلافة، فأبى (عليه السلام) هذا العرض، وجرت بينهما مخاطبات كثيرة دامت نحوًا من شهرين، والإمام (عليه السلام) يأبى الموافقة، وحينما يئسَ المأمونُ عرض عليه ولاية العهد، فأجابه الإمام (عليه السلام) بعد الإلحاح الشديد والتلويح بالقتل، وشرط عليه شروطًا، منها: إنِّي أدخل في ولاية العهد على أن لا آمر ولا أنهى ولا أقضي، ولا أغيِّر شيئًا ممّا هو قائم، وتعفيني من ذلك كلِّه.
دوافع المأمون
ويمكن تحديد دوافع المأمون في النقاط التالية: 1 ـ تهدئة الأوضاع المضطربة: إضطربت أوضاع الحكم بسببِ القتال الدَّامي بين الأخَوين (المأمون وأخيه الأمين)، والذي انتهى بقتل الأمين، إضافةً إلى قيام الثَّورات والحركات المسلَّحة، وازدياد عدد المعارضين لحُكمِه. فأراد المأمون من تقريبِ الإمام (عليه السلام) استقطابَ أعوانه وأنصاره، وإيقافَ حركاتهم المسلَّحة، ليتفرَّغ إلى بقيَّة الثائرين والمتمرِّدين، الذين لا يعتدُّ بهم قياسًا للثوَّار العلويِّين. 2 ـ إضفاء الشرعية على الحكم القائم: إنَّ ما قام به المأمون من تولية الإمام (عليه السلام) يمكن أن يحقِّقَ ما يصبو إليه من إضفاء الشَّرعية على حكمه، مستفيداً من الولاء الفكري والعاطفي للإمام (عليه السلام) في نفوس المسلمين، ورضاه الظاهري، يعني رضاه عن الحكم الواقع ولِعدم معارضته له، وهذا ما تستنتجه الأمّة، حسب مشاهدتها للظواهر. 4 ـ إبعاد الإمام عن قواعده: إنَّ وجودَ الإمام (عليه السلام) في العاصمة يعني انفصالَه عن قواعدِه الشعبية، وتحجيم الفرَص المتاحة للإجتماع بوكلائه ونوَّابه المنتشرين في شرقِ الأرض وغربها، وكثَّف المأمون من مراقبة الإمام (عليه السلام). 4 ـ إيقاف خطر الإمام (عليه السلام) على الحكم القائم: إنَّ توسُّع القاعدة الشعبية للإمام (عليه السلام)، كان يشكِّل خطرًا حقيقيًّا على حكومة المأمون بعد التصدُّع الذي حدث في البيت العباسي، ولكن بعد قيام الثورات المسلَّحة، لو تُرك الإمام في المدينة لأدَّى ذلك إلى ضعف الحكومة القائمة، وبهذا الصدد قال المأمون: وقد خشينا إنْ تركناه على ترك الحالة أن ينفتقَ علينا منه ما لا نسدُّه، ويأتي علينا ما لا نطيقه. 5 ـ تشويه سمعة الإمام (عليه السلام): أجاب الإمام (عليه السلام) المأمون موضحًا دوافعه بقوله: تريد بذلك أن يقول الناس: إنَّ علي بن موسى الرِّضا لم يزهد في الدنيا بل زهدت الدنيا فيه، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعًا بالخلافة؟! . وصرَّح المأمون بذلك للعباسيِّين بقوله: ولكنَّنا نحتاج أن نضع منه قليلاً قليلاً، حتَّى نصوِّره عند الرَّعايا بصورة من لا يستحقُّ هذا الأمر.
أسباب القبول
أسباب قبول الإمام (عليه السلام) بولاية العهد: 1 ـ التهديد بالقتل: قال المأمون للإمام (عليه السلام): يا ابن رسول الله قد عرفت فضلك وعلمك وزهدك، وورعك وعبادتك، وأراك أحقّ بالخلافة منِّي. فقال الإمام (عليه السلام): بالعبودية لله عزَّ وجلَّ أفتخر، وبالزُّهد في الدُّنيا أرجو النَّجاة من شرِّ الدنيا، وبالورع عن المحارم أرجو الفوزَ بالغنائم، وبالتَّواضع في الدنيا أرجو الرِّفعة عند الله تعالى. فقال المأمون: إنِّي قد رأيتُ أن أعزلَ نفسي عن الخلافة وأجعلَها لك وأبايعَك!. قال الإمام (عليه السلام): إن كانت هذه الخلافة لك وجعلها الله لك، فلا يجوز لك أن تخلع لباساً ألبسكَه الله وتجعله لغيرك، وإن كانت الخلافة ليست لك، فلا يجوز لك أن تجعل لي ما ليس لك. فقال المأمون: يا ابنَ رسول الله لابدَّ من قبولِ هذا الأمر، قال الإمام (عليه السلام): لستُ أفعل ذلك طايعاً أبداً. فما زال يجهد به أيَّامًا فلمَّا يئس من قبوله عرض عليه ولاية العهد، ثمَّ جرى بينهما كلام أوضح فيه الإمام (عليه السلام) دوافع المأمون من ذلك، فغضب المأمون ثمَّ قال: إنَّك تتلقاني أبدأ بما أكرهه، وقد أمنتَ سطوتي، فبالله أقسم لئن قبلتَ ولاية العهد وإلاَّ أجبرتُك على ذلك، فإن فعلتَ وإلاّ ضربتُ عنقَك. فقال الإمام (عليه السلام): قد نهاني الله عزَّ وجلَّ أن ألقيَ بيدي إلى التَّهلكة، فإنْ كان الأمرُ على هذا، فافعل ما بَدا لك، وأنا أقبلُ ذلك على أن لا أولِّي أحداً ولا أعزلُ أحداً ولا أنقضنَّ رسماً ولا سنَّة، وأكون في الأمر بعيداً مشيراً، فرضِي منه بذلك، وجعله وليَّ عهده والإمام (عليه السلام) كارهٌ لذلك. وفي رواية أخرى أنَّ المأمون قال له: إنَّ عمر بن الخطَّاب جعل الشورى في ستة، أحدهم جدّك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وشرط فيمن خالف منهم أن يضرب عنقه، ولابدَّ من قبولِك ما أريدُه منكَ، فإنِّي لا أجدُ محيصًا منه. وقد صرَّح الإمام (عليه السلام) باضطراره للقبول وكان يقول: قد علم اللهُ كراهتي لذلك، فلمَّا خيّرتُ بين قبول ذلك وبين القتل اخترت القبولَ على القتل. وقيل له: يا ابن رسول الله، ما حملك على الدخول في ولاية العهد؟، فقال (عليه السلام): ما حمل جدّي أميرُ المؤمنين على الدخول في الشورى. والإمامُ (عليه السلام) لم يستسلم للقبول خائفًا من قتله، وإنَّما سيكون قتله سببًا في خسارة الحركة الرساليَّة، لحاجتها إلى قيادته في هذه المرحلة، وسيكون قتله مقدمةً لقتل أهلِ بيته، أو يؤدِّي إلى ردود أفعال مسلَّحة غير مدروسة بدافع الانتقام، وبالتَّالي تنهار القوَّة العسكريَّة دون أن تغيِّرَ من الأحداث شيئًا. 2 ـ استثمار الظروف لإقامة الدين وإحياء السُّنـَّة: إنَّ الحريَّة النسبيَّة الممنوحة للإمام (عليه السلام)، ولأهل بيته وأنصاره، هي فرصة مناسبة لتبيان معالم الدين، وإحياء السنّة النبوية، ونشر منهج أهل البيت (عليهم السلام) في مختلف الأوساط الإجتماعية والسياسية، وخصوصًا في البلاط الحاكم، عن طريق الإلتقاء بالوزراء والخواصّ والخدم والحرَّاس وغيرهم، وقد صرَّح الإمام (عليه السلام) بذلك قائلاً: اللهمَّ إنَّك قد نهيتني عن الإلقاء بيدي إلى التهلكة، وقد أُكرهتُ واضطررت، كما أشرفتُ من قبلِ عبد الله المأمون على القتل متى لم أقبل ولاية عهده... اللهمَّ لا عهد إلاَّ عهدك، ولا ولاية إلاَّ من قبلك، فوفقني لإقامة دينك، وإحياء سنَّة نبيِّك محمَّد (صلى الله عليه وآله وسلّم)، فإنَّك أنت المولى وأنت النَّصير، ونعم المولى أنت ونعمَ النَّصير. وقد سمحت الظروف للإمام (عليه السلام) لتبيانِ المنهج السَّليم أمام الوزراءِ والقضاة والفقهاء وأهلِ الدِّيانات، الذين جمعهم المأمون لمناظرة الإمام (عليه السلام)، إضافةً إلى قيامه بتوجيه المأمون إلى اتِّخاذ الرأي الأَصوب مهما أمكن. 3 ـ إفشال مخطَّطات المأمون: من المتوقَّع أنَّ المأمون سيقوم بتولية العهد لأحد العلويِّين، ويستثني عن إكراه الإمام (عليه السلام) أو قتله، والعلوي المنصَّب لولاية العهد، إمَّا أن يكون مساومًا أو انتهازيًّا، أو مخلصًا قليل الوعي، أو واعيًا معرَّضًا للانزلاق في مغريات السلطة، وفي جميع الحالات، فإنَّ هذا الموقف سيؤدِّي إلى شقِّ صفوف أنصار أهل البيت (عليهم السلام)، أو توريط العلوي بممارسات خاطئة، تؤدّي إلى تشويه سمعة أهل البيت (عليهم السلام)، أو إلقاء مسؤولية الفساد الاقتصادي والأخلاقي والإداري والسياسي عليه. وقد يؤدِّي انزلاق من يتولى العهد من العلويِّين، إلى قيامه بمعارضة الإمام (عليه السلام)، أو ملاحقه أتباعه وأنصاره. وبقبول الإمام (عليه السلام) لولايةِ العهد، سوف تفوتُ الفرصة على المأمون، لإمرارِ مخطَّطاته في شقِّ صفوفِ الحركة الرساليَّة، أو إلقاء تبعةِ المفاسد على من يُنسب إلى أهل البيت (عليهم السلام).
مكتسبات القبول بولاية العهد
جمع المأمون الخطباء والشعراء بعد انعقاد ولاية العهد، فأخذوا يعدِّدون فضائل ومآثر وكرامات الإمام الرضا (عليه السلام). وطلبَ المأمونُ من الإمام (عليه السلام) أن يخطبَ الناس، فخطب موضّحاً الحقوق المتبادلة بينه وبين الناس قائلاً: أيها الناس.. إنَّ لنا عليكم حقًّا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)، ولكم علينا حقًّا به، فإذا أدَّيتم إلينا ذلك، وجب لكم علينا الحكم والسلام. ثمّ خطب المأمون وقال: أيُّها النَّاس جاءتكم بيعةُ عليّ بن موسى بن جعفر بن محمَّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب (عليهم السلام)، والله لو قرأتُ هذه الأسماء على الصمِّ البكم لبرئوا بإذن الله عزَّ وجل. ووضّحَ الإمامُ (عليه السلام) المنهج السياسي للحاكم الإسلامي، ودوره في تطبيق أحكام الشريعة، والأسباب التي تؤدّي إلى شرعية الاستمرار في الحكم، جاء ذلك في وثيقة العهد التي كتبها (عليه السلام) بخطِّه: جعلت لله على نفسي عهدًا إن استرعاني أمر المسلمين، وقلّدني خلافة العمل فيهم... أن أعمل بطاعة الله تعالى، وطاعة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ولا أسفك دماً حراماً، ولا أبيح فرجاً، ولا مالاً إلاّ ما سفكته حدوده، وأباحته فرائضه، وأن أتخير الكفاة جهدي وطاقتي... وإن أحدثت أو غيَّرت أو بدَّلت، كنت للعزل مستحِقًّا وللنكال متعرَّضا. المكتسبات: استطاع الإمامُ (عليه السلام) بقبول ولاية العهد، أن يحقِّق جملةً من المكتسبات منها: 1 ـ اعتراف المأمون بأحقِّية أهل البيت (عليهم السلام): كتب المأمون كتابًا للعباسيِّين المعترضين على تولية الإمام (عليه السلام) جاء فيه: فلم يقم مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) أحدٌ من المهاجرين، كقيام علي بن أبي طالب (عليه السلام) فإنَّه آزره ووقاه بنفسه... وهو صاحب الولاية في حديث غدير خمّ، وصاحب قوله: أنت منِّي بمنزلةِ هارونَ من موسى، إلاَّ أنَّه لا نبيَّ بعدي... وكان أحبّ الخلقِ إلى الله تعالى وإلى رسوله، وصاحبُ الباب، فُتح له وسدَّ أبواب المسجد. وهو صاحب الراية يوم خيبر، وصاحب عمرو بن عبد ودّ في المبارزة، وأخو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) حين آخى بين المسلمين. 2 ـ توظيف وسائل الإعلام لصالح الإمام (عليه السلام): وظَّف المأمون وسائلُ الإعلامِ الرسميَّة لصالح الإمام (عليه السلام)، فالولاةُ والأمراء وأئمة الجمعة، يدعون له من على المنابر في كلّ يوم، وكلّ جمعة وكلّ مناسبة، إضافةً إلى طبع اسمه على الدراهم والدنانير المعمول بها في جميع الأمصار. 3 ـ حريةُ الإمام (عليه السلام) في المناظرة: واستطاع الإمامُ (عليه السلام) من خلال حرية المناظرة، أن يردَّ على جميع الشبهات المثارة، من قبل أصحابِ الأديان وأصحابِ المذاهب، واستثمر الحرية المتاحة، في تفنيد آراء الغلاة والواقفة، وتثبيت الآراء السليمة المنسجمة مع نهج أهل البيت (عليهم السلام). ومن الأمثلة على ذلك: أنَّ المأمونَ العباسي قد أرسل للإمام ليناظر متكلم خراسانسليمان المروزي، وكانت المناظرة حول موضوع البداء وصفات الله تعالى، وكان الإمامُ (عليه السلام) يبطل حججه بالردود الحاسمة والبراهين الساطعة، حتى سكت ولم يستطع جواباً. مثال آخر: مناظرته لعليّ بن الجهم الذي أثار الشبهات حول عصمة الأنبياء (عليهم السلام)، اعتمادًا على الآيات المتشابهة في القرآن، وقد أجابه الإمام (عليه السلام) بأجوبةٍ كشفت زيف فكره، وعدم قدرته على فهم المطلب، فبكى ابن الجهم وأعلن توبته. 4 ـ نشرُ مفاهيم وفضائل أهل البيت (عليهم السلام): استثمر الإمام (عليه السلام) الفرصة المتاحة له، لنشر مفاهيم وفضائل أهل البيت (عليهم السلام)، ودورهم الريادي في الأمّة، وخصوصًا بين الوزراء وقادة الجيش والفقهاء والقضاة، ومن يرتبط بالبلاط الحاكم بِصِلة. 5 ـ حقن الدماء: من مكتسباتِ قبول ولاية العهد من قبل الإمامِ (عليه السلام)، هو حقن دماء المسلمين من أتباع أهل البيت (عليهم السلام)، ومن أتباع النظام الحاكم، فأعلن المأمون العفو العامَّ عن قادة الثورات، ومنهم: زيد وإبراهيم إخوة الإمام (عليه السلام) ومحمَّد بن جعفر، وتوقَّفت الثورات المسلَّحة، وتوجَّه قادتها وكوادرها إلى إصلاح الأوضاع بصورةٍ سلميةٍ هادئة، وبناء القواعد الشعبية.