البحث الرقم: 904 التاريخ: 1 صفر المظفّر 1430 هـ المشاهدات: 5166
ظل الإمام في الكوفة شُهوراً، ثم ارتحل عنها وارتحل معه كلُّ الخير. ففي نفس الأيام التي خرج الإمام (عليه السلام) عنها، حلَّ بها طاعون فمات الكثير من أهلها، حتى أن واليها المغيرة بن شعبة أُصيب به فمات. فلما بلغ (عليه السلام) المدينة، خَفَّ أهلها يستقبلونه أحرَّ الاستقبال، وظل هناك يقود حرباً باردة ضد معاوية ومؤامراته على المسلمين. في الشام: بعد مرور عام على إقامة الإمام الحسن (عليه السلام) في المدينة، وفد إلى دمشق عاصمة الخلافة الإسلامية. فراح يبلِّغ (عليه السلام) عن دعوته التي خُلق لها، وخرج بها، وعاش معها، تلك دعوة الحق، ومحق الباطل. ولقد أظهر الإمام (عليه السلام) في تلك الرحلة الرسالية لأهل الشام، أنَّ معاوية ليس بالذي يصلح للقيادة، على ما موَّه عليهم بدعاياته المضللة. فهو يرجع بهم إلى الجاهلية حيث كان أبوه يستعبد الناس، ويستنزف جهودَهم وطاقاتهم، ولا يهمه بعد ذلك أَسَعِدُوا أم شقوا. وليس من العجب أن نرى كلّ من التفَّ حول معاوية ودافع عن أفكاره ونصب نفسه لدعوته، كان من قبل قد التفَّ هو أو أسرته حول أبي سفيان، ودافع عن أفكاره. فلا زال معاوية يقود الحزب الأموي الذي قاده من قبل والده أبو سفيان، بذات المفاهيم والعادات والسلوكيات. كما أنه لا يثير العجب إذا رأينا في صف الإمام الحسن (عليه السلام) ثُلَّة صالحة مِمَّن كان قبل أيام يناضل أبا سفيان وحزبه، دفاعاً عن قِيَم الرسالة. والواقع أن حركة معاوية كانت رَدُّ فعلٍ جاهلي، ضِدَّ انتشار رسالة الإسلام، وكانت على صِلَة تامة بالروم. وكان يعتمد معاوية على أشخاص مثل عمرو بن العاص، وزياد بن أبيه، وعتبة بن أبي سفيان، والمغيرة بن شعبة، ونظائرهم ممن لا تزال صورهم أو صور أسرهم تتراءى لنا، في ميادين بدر والخندق. كما كان يعتمد على النصارى الذين أصبحت لهم قوة لا يُستهان بها داخل الدولة الأموية. وإن معاوية كان يجتمع كل مساء بمن يقرأ عليه أخبار الحروب السابقة، وخصوصاً تجارب الروم في الحروب السياسية، فيستفيد منها. من هنا نعرف أنَّ الحرب بين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، أو نجله الإمام الحسن (عليه السلام) وبين معاوية، لم تكن صراعاً مجرداً على السلطة، ولا صراعاً بين حزبين داخل الإطار الإسلامي، بل كان صراعاً بين الكفر المُبَطَّن، والإسلام الحق. ولذلك اتَّبع الإمام الحسن (عليه السلام) نهجاً خاصاً في مواجهة الصراع، وهو نهج الدعوة الصريحة، حيث سافر إلى الشام، عاصمة الخلافة، كي يُقر حقّاً نذر له نفسه، ومن الطبيعي أن أهل الشام سوف يلتفتون إليه بعد أن كان رئيس الحركة المناوئة لدولتهم، وقائد الحرب المعارض لسياستهم. ولابد أن يَفِد منهم خلق كثير، فهنالك يستطيع أن يبلِّغ دعوته وينشر من علومه ما يدكُّ صرح معاوية السياسي، وينسف أحلامه الجاهلية. وإن صفحات التاريخ تطالعنا بكثير من خطبه (عليه السلام) التي ألقاها على أهل الشام، فأثَّر في نفوسهم أبلغ تأثير. ولم يزل كذلك حتى اشتكاه أنصار معاوية قائلين له: إن الحسن قد أحيا أباه وَذِكْره، وقال فصُدِّق، وأَمَرَ فأُطيع، وخُفِقَتْ له النِّعَال، وإن ذلك لرافعه إلى ما هو أعظم منه، ولا يزال يبلغنا عنه ما يسوؤنا. معارضة الإمام (عليه السلام): وهكذا قاد الإمام الحسن (عليه السلام) معارضة سياسية قوية، ولكن من دون الحرب. وكان (عليه السلام) يوجّه شيعته هنا وهناك، وينظم صفوفهم، وينمي كفاءاتهم، ويدافع عنهم أمام بطش معاوية وكيده. وفي ذات الوقت كان (عليه السلام) يقوم بنشر الثقافة الإسلامية في كافة البلاد. فإما عن طريق الرسائل والموفودين من تلامذته البارعين، الذين كان يتكفَّل أمورهم المادية والمعنوية ثم يبعثهم إلى الآفاق، أو عبر الخطب التي كان يلقيها في مواسم الحج وغيرها، فيملك ناحية الأمّة، ويستأثر بقيادتها الثقافية. ومن ذلك أيضاً، نستطيع أن ندرك سِرَّ اختياره (عليه السلام) المدينة المنورة كوطَنٍ دائمٍ له، حيث كان فيها من الأنصار وغيرهم مِمَّن يَقدِر على إرشادهم وتوجيههم. وبذلك يستطع أن يشقَّ طريقه إلى إرشاد الأمّة وتوجيهها، حيث كان الأنصار وأولادهم هم القدوة الفكرية للأمّة، فمَن ملك قيادة الأنصار ملك قيادة الأمّة فعلاً.