بيان
قوله تعالى: يسئلونك ما ذا ينفقون، قل: ما أنفقتم من خير، قالوا: إن الآية واقعة على أسلوب الحكمة، فإنهم إنما سألوا عن جنس ما ينفقون و نوعه، و كان هذا السؤال كاللغو لمكان ظهور ما يقع به الإنفاق و هو المال على أقسامه، و كان الأحق بالسؤال إنما هو من ينفق له: صرف الجواب إلى التعرض بحاله و بيان أنواعه ليكون تنبيها لهم بحق السؤال.
و الذي ذكروه وجه بليغ غير أنهم تركوا شيئا، و هو أن الآية مع ذلك متعرضة لبيان جنس ما ينفقونه، فإنها تعرضت لذلك: أولا بقولها: من خير، إجمالا، و ثانيا بقولها: و ما تفعلوا من خير فإن الله به عليم، ففي الآية دلالة على أن الذي ينفق به هو المال كائنا ما كان، من قليل أو كثير، و أن ذلك فعل خير و الله به عليم، لكنهم كان عليهم أن يسألوا عمن ينفقون لهم و يعرفوه، و هم: الوالدان و الأقربون و اليتامى و المساكين و ابن السبيل.
و من غريب القول ما ذكره بعض المفسرين: أن المراد بما في قوله تعالى: ما ذا ينفقون ليس هو السؤال عن الماهية فإنه اصطلاح منطقي لا ينبغي أن ينزل عليه الكلام العربي و لا سيما أفصح الكلام و أبلغه، بل هو السؤال عن الكيفية، و أنهم كيف ينفقونه، و في أي موضع يضعونه، فأجيب بالصرف في المذكورين في الآية، فالجواب مطابق للسؤال لا كما ذكره علماء البلاغة!.
و مثله و هو أغرب منه ما ذكره بعض آخر: أن السؤال و إن كان بلفظ ما إلا أن المقصود هو السؤال عن الكيفية فإن من المعلوم أن الذي ينفق به هو المال، و إذا كان هذا معلوما لم يذهب إليه الوهم، و تعين أن السؤال عن الكيفية، نظير قوله تعالى: «قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا»: البقرة - 70، فكان من المعلوم أن البقرة بهيمة نشأتها و صفتها كذا و كذا، فلا وجه لحمل قوله: ما هي على طلب الماهية، فكان من المتعين أن يكون سؤالا عن الصفة التي بها تمتاز البقرة من غيرها، و لذلك أجيب بالمطابقة بقوله تعالى: «إنها بقرة لا ذلول:» الآية البقرة - 71.
و قد اشتبه الأمر على هؤلاء، فإن ما و إن لم تكن موضوعة في اللغة لطلب الماهية التي اصطلح عليها المنطق، و هي الحد المؤلف من الجنس و الفصل القريبين، لكنه لا يستلزم أن تكون حينئذ موضوعة للسؤال عن الكيفية، حتى يصح لقائل أن يقول عند السؤال عن المستحقين للإنفاق: ما ذا أنفق: أي على من أنفق؟ فيجاب عنه بقوله: للوالدين و الأقربين، فإن ذلك من أوضح اللحن.
بل ما موضوعة للسؤال عما يعرف الشيء سواء كان معرفا بالحد و الماهية، أو معرفا بالخواص و الأوصاف، فهي أعم مما اصطلح عليه في المنطق لا أنها مغايرة له و موضوعة للسؤال عن كيفية الشيء، و منه يعلم أن قوله تعالى: «يبين لنا ما هي» و قوله تعالى: «إنها بقرة لا ذلول»، سؤال و جواب جاريان على أصل اللغة، و هو السؤال عما يعرف الشيء و يخصه و الجواب بذلك.
و أما قول القائل: إن الماهية لما كانت معلومة تعين حمل ما على السؤال عن الكيفية دون الماهية فهو من أوضح الخطإ، فإن ذلك لا يوجب تغير معنى الكلمة مما وضع له إلى غيره.
و يتلوهما في الغرابة قول من يقول: إن السؤال كان عن الأمرين جميعا: ما ينفقون؟ و أين ينفقون فذكر أحد السؤالين و حذف الآخر، و هو السؤال الثاني لدلالة الجواب عليه! و هو كما ترى.
و كيف كان لا ينبغي الشك في أن في الآية تحويلا ما للجواب إلى جواب آخر تنبيها على أن الأحق هو السؤال عن من ينفق عليهم، و إلا فكون الإنفاق من الخير و المال ظاهر، و التحول من معنى إلى آخر للتنبيه على ما ينبغي التحول إليه و الاشتغال به كثير الورود في القرآن، و هو من ألطف الصنائع المختصة به كقوله تعالى: «و مثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء و نداء:» البقرة - 171 و قوله تعالى: «مثل ما ينفقون في هذه الحيوة الدنيا كمثل ريح فيها صر:» آل عمران - 117 و قوله تعالى: «مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل:» البقرة - 261، و قوله تعالى: «يوم لا ينفع مال و لا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم:» الشعراء - 89، و قوله تعالى: «قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا:» الفرقان - 57، و قوله تعالى: «سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين:» الصافات - 160، إلى غير ذلك من كرائم الآيات.
قوله تعالى: و ما تفعلوا من خير فإن الله به عليم، في تبديل الإنفاق من فعل الخير هاهنا كتبديل المال من الخير في أول الآية إيماء إلى أن الإنفاق و إن كان مندوبا إليه من قليل المال و كثيره، غير أنه ينبغي أن يكون خيرا يتعلق به الرغبة و تقع عليه المحبة كما قال تعالى: «لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون:» آل عمران - 92، و كما قال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم و مما أخرجنا لكم من الأرض و لا تيمموا الخبيث منه تنفقون و لستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه:» البقرة - 267.
و إيماء إلى أن الإنفاق ينبغي أن لا يكون على نحو الشر كالإنفاق بالمن و الأذى كما قال تعالى: «ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا و لا أذى:» البقرة - 262، و قوله تعالى: «و يسئلونك ما ذا ينفقون قل العفو:» البقرة - 219.
بحث روائي
في الدر المنثور، عن ابن عباس قال: ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب محمد ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض، كلهن في القرآن، منهن: يسئلونك عن الخمر و الميسر، و يسألونك عن الشهر الحرام، و يسئلونك عن اليتامى، و يسئلونك عن المحيض، و يسئلونك عن الأنفال، و يسئلونك ما ذا ينفقون، ما كانوا يسألون إلا عما كان ينفعهم.
في المجمع،: في الآية نزلت في عمرو بن الجموح، و كان شيخا كبيرا ذا مال كثير، فقال: يا رسول الله بما ذا أتصدق؟ و على من أتصدق؟ فأنزل الله هذه الآية: أقول: و رواه في الدر المنثور، عن ابن المنذر عن ابن حيان، و قد استضعفوا الرواية، و هي مع ذلك غير منطبق على الآية حيث لم يوضع في الآية إلا السؤال عما يتصدق به دون من يتصدق عليه.
و نظيرها في عدم الانطباق ما رواه أيضا عن ابن جرير و ابن المنذر عن ابن جريح قال: سأل المؤمنون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أين يضعون أموالهم؟ فنزلت يسئلونك ما ذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير، فذلك النفقة في التطوع، و الزكاة سوى ذلك كله.
و نظيرها في ذلك أيضا ما رواه عن السدي، قال: يوم نزلت هذه الآية لم يكن زكاة، و هي النفقة ينفقها الرجل على أهله، و الصدقة يتصدق بها فنسختها الزكاة.
أقول: و ليست النسبة بين آية الزكاة: «خذ من أموالهم صدقة:» التوبة - 104، و بين هذه الآية نسبة النسخ و هو ظاهر إلا أن يعني بالنسخ معنى آخر.
|